أخبار اليوم - عواد الفالح - مع التطور التكنولوجي المتسارع الذي شهدته المجتمعات العربية في العقود الأخيرة، برزت تغييرات جذرية في القيم والمبادئ الأخلاقية. ما كان يوصف بـ"حرام" في السابق أصبح يُنظر إليه كـ"عيب"، ومن ثم تحوّل إلى "حرية شخصية"، حتى وصلنا إلى تبرير بعض التصرفات بأنها "تمثل الشخص نفسه". هذا التحول الملحوظ في القيم يطرح تساؤلاً عميقاً: كيف انهارت المجتمعات أخلاقياً في ظل التقدم التكنولوجي؟
تغير مفهوم الحرام إلى العيب
في المجتمعات العربية، كان هناك دائماً إطار أخلاقي وديني واضح يحدد ما هو "حرام" وما هو مقبول. ولكن مع مرور الزمن، بدأت هذه القيم تتآكل خطوة خطوة. ما كان يعتبر في السابق محظوراً دينياً ومجتمعياً، أصبح يوصف بـ"العيب"، وهو مصطلح أقل حدة يعكس تراجع الشعور بالحرمة الدينية تجاه بعض التصرفات. ومع انتشار وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، بدأت القيم الأخلاقية تتعرض لضغوط جديدة، ما ساهم في تخفيف الحواجز بين "الحرام" و"العيب".
من العيب إلى الحرية الشخصية
مع ثورة الاتصالات والإنترنت، شهدت المجتمعات العربية انفتاحاً غير مسبوق على العالم الخارجي. هذا الانفتاح أتاح تبادل الثقافات والقيم بين المجتمعات المختلفة، مما أدى إلى إعادة تعريف الحدود الأخلاقية. الكثير من السلوكيات التي كانت تُعد "عيباً" في الثقافة العربية، أصبحت تُبرر على أنها "حرية شخصية". هذا التحول جاء نتيجة لانتشار مفاهيم غربية تحررية، حيث أصبح الفرد هو المحور الأساسي في تحديد ما هو صحيح أو خاطئ بناءً على رؤيته الشخصية، بعيداً عن أي معايير اجتماعية أو دينية.
يمثل نفسه: نهاية المسؤولية الجماعية
مع تعمق فكرة "الحرية الشخصية"، برز مفهوم جديد في المجتمعات العربية وهو أن الفرد "يمثل نفسه"، ما يعني أن تصرفاته لا تعكس إلا شخصيته الفردية، ولا تتحمل الأسرة أو المجتمع أي مسؤولية عنها. هذا الاتجاه أدى إلى تفكك الروابط الاجتماعية والعائلية التي كانت تحكم السلوكيات العامة. ففي السابق، كان الفرد يعتبر نفسه ممثلاً لعائلته أو مجتمعه، وكانت تصرفاته محكومة بتوقعات الآخرين. أما الآن، فأصبح التبرير الشخصي لكل تصرف هو السائد، مما أدى إلى زيادة الفردية وانخفاض الشعور بالمسؤولية الاجتماعية.
التكنولوجيا ودورها في تغيير القيم
لا يمكن إنكار الدور الكبير الذي لعبته التكنولوجيا في تغيير القيم الأخلاقية. مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح من السهل نشر الأفكار والممارسات غير التقليدية، بل وتطبيعها في أعين الأجيال الجديدة. المنصات الإلكترونية أصبحت تمثل بيئة حرة، بلا رقابة، حيث يُعرض كل شيء، ويُتَدَاوَل بسرعة كبيرة. هذا الانتشار السريع جعل من السهل على المجتمعات قبول سلوكيات كانت في السابق مرفوضة كلياً.
على سبيل المثال، بعض السلوكيات التي كانت تعتبر انتهاكاً للقيم الأخلاقية في المجتمعات العربية أصبحت الآن منتشرة بشكل واسع على الإنترنت، ويُدَافَع عنها بأنها "اختيارات شخصية". وفي ظل غياب الرقابة والتوجيه الأخلاقي في هذه المنصات، يصبح من الصعب على الأجيال الناشئة التمييز بين ما هو صحيح وما هو خاطئ.
انهيار المجتمعات: أين الخطأ؟
يبدو أن المجتمعات العربية اليوم تقف على مفترق طرق، حيث تتصارع بين المحافظة على هويتها الثقافية والدينية وبين الانفتاح على مفاهيم الحرية الفردية التي تروج لها التكنولوجيا الحديثة. ومع تراجع دور المؤسسات الدينية والتربوية التقليدية في توجيه الأجيال الجديدة، بات التقدم التكنولوجي يمثل سيفاً ذا حدين: فمن جهة، يسهل الوصول إلى المعرفة والتواصل، ومن جهة أخرى، يفتح الباب أمام تآكل القيم والمبادئ التي كانت تحكم هذه المجتمعات.
قال الله تعالى في القرآن الكريم: "ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ" (سورة الروم، الآية 41). هذا التغيير الأخلاقي الذي تشهده المجتمعات اليوم قد يكون انعكاساً لطغيان الماديات والتكنولوجيا على القيم الإنسانية والدينية.
الحل: العودة إلى الجذور والقيم الأخلاقية
في ظل هذه التحديات، يظل الحل الوحيد لاستعادة القيم الأخلاقية هو العودة إلى الجذور الثقافية والدينية التي كانت تُشكل الأساس القوي للمجتمعات العربية. يجب أن تعود المؤسسات الدينية والتعليمية لأداء دورها في توجيه الأجيال الجديدة، والعمل على ترسيخ القيم الأخلاقية والدينية التي تمثل الأساس الصلب للمجتمعات.
قال الله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ" (سورة الرعد، الآية 11). هذه الآية تُذكرنا بأهمية التغيير الذاتي والإصلاح الأخلاقي الذي يبدأ من الفرد ليمتد إلى المجتمع ككل.
انهيار القيم الأخلاقية في المجتمعات العربية ليس نتيجة التقدم التكنولوجي
إن انهيار القيم الأخلاقية في المجتمعات العربية ليس نتيجة التقدم التكنولوجي بحد ذاته، بل هو نتيجة سوء استخدام هذا التقدم وتجاهل القيم الأساسية التي كانت تحكم المجتمعات لسنوات طويلة. العودة إلى تلك القيم، والتوازن بين التطور التكنولوجي والاحتفاظ بالهوية الأخلاقية، هو السبيل الأمثل لضمان استمرار تطور المجتمعات دون انهيارها أخلاقياً.