أ.د. نبيل حداد
كان ذلك على الأرجح سنة 1981، أي قبل ثلاثة وأربعين عاماً تقريباً، وكنت قد عينتُ للتو أستاذاً مساعداً مشتركاً بين قسم الصحافة والإعلام وقسم اللغة العربية وآدابها وقبل ذهابي إلى الولايات المتحد الأميركية سنة 1983 في بعثة امتدت لعام ونصف ليتم تثبيت تعييني بعد عودتي من البعثة بالصفة المشتركة بين القسمين العتيدين.
كان قسم الصحافة في تلك الأيام شعلة متقدة، وكان يدعى «دائرة» يحمل لواءها مؤسس القسم، وواضع خططه، وأستاذ معظم المواد التي يقدمها القسم، والمشرف على فعالياته، وهو الأستاذ الدكتور مازن العرموطي الذي بوصفه نابغة مرحلته التي أنجزت أهم مؤسسة ثقافية ترويحية، أعني مهرجان جرش، إضافة إلى قسم أكاديمي رائد ووحيد بين الجامعات الأردنية في حينه، أي قسم الصحافة والإعلام. والدكتور مازن باني مؤسسات بمعنى الكلمة، هكذا وصفه دولة الأكاديمي الكبير الأستاذ الدكتور عدنان بدران في محاضرة عامة حضرتها في المعهد الدبلوماسي في عمان سنة 1997 أو نحوها على ما أذكر.
وإنجاز المهرجان، ومن ثم مأسسته يحتاج إلى جيش من العاملين، وحين انتُدب مازن إلى هذه المهمة، لم يحظ إلا بمجموعة من لجان فنية مكونة من كبار العاملين في الجامعة أو من خارجها، أي من أجهزة الدولة المختلفة من أولئك الذين لم تكن لتتيح مسؤولياتهم في مواقعهم الأصلية تقديم مساعدة ميدانية ذات بال لإخراج المهرجان إلى حيز الوجود؛ فكان لا بد من الاستعانة بالطلبة المتميزين وكان لا بد أن يكون عامر طهبوب بشخصيته المشتعلة حيويةً وحماسةً في مقدمة هؤلاء الطلبة.
ما العمل؟ وكيف يمكن إنجاز مؤسسة ذات طبيعة جماهيرية إلا بجيش من جمهور العاملين. كان الحل طلبة قسم الصحافة والإعلام، وكان بينهم بل في مقدمتهم كما ذكرت شاب نحيف في العشرين من عمره، متقد الذكاء، ذو طبع ناري، يعرف كل شيء ماعدا التردد. كان عامر دائماً بارزاً ومعولاً عليه في أي فريق عمل ينخرط فيه، سواء في إرشاد الطلبة الجدد وقد غدا خبيراً في المساقات والمتطلبات الاختيارية منها والإجبارية والسابقة، أو في البرامج الدراسية التطبيقية في تخصص يظل الجانب التطبيقي هو الأهم، وفي المشاركة في إنجاز العدد الأسبوعي لجريدة صحافة اليرموك مع فريق مندوبين ومحررين واعدين باتوا اليوم يمثلون الغالبية من جيل القادة الإعلاميين في الأردن أو في دول عربية أخرى. أو في المشاركة مع فرق العمل التنظيمية والميدانية لمهرجان جرش، وهنا تجلت حيوية «عامر المهرجان» مع الربان الماهر الدكتور العرموطي الذي قاد إنجازات المهرجان وصنع توجهاته ولسنين طوال استمرت نافذة بعد تأسيسه، وكان عامر من المقربين للدكتور مازن، لا سيما أنه كان اختبر طاقاته وحيويته في العمل معه مساعداً رئيسياً في إنجاز الكتاب السنوي للجامعة الذي كان في أعداده الأولى يمثل نقلة نوعية بين جميع الإصدارات في الأنشطة اللامنهجية الصادرة عن الجامعات الأردنية في ذلك الحين، وقد استطاع العدد الأول من هذا الكتاب أن يسهم في تحطيم الحواجز بين الوسطين الاجتماعي والأكاديمي في مجتمع يظل أقرب إلى النمط التقليدي في التعامل مع العلاقة بين هذين الوسطين.
وأكثر ما لفتني في عامر أثناء عملنا في هذا الكتاب السنوي، قدرته على اصطياد التعليقات المعبرة والطريفة المصاحبة للصور captions، فقد ارتأى الدكتور مازن أن تكون التعليقات المصاحبة لهذه الصور غير تقليدية في جامعة تتطلع إلى التفرد والتمايز، وأن تكون المادة الكلامية طريفة أو على الأصح خفيفة، وقد لا تخلو من حس فكاهي قد يكون من قارص الكلام، ويشارك الجميع ولا سيما الطلبة في صياغتها، فمثلاً، وحين أفرد الكتاب حيزاً للحديث عن قسم التغذية في الجامعة، التقط المرحوم مصور دائرة الصحافة والإعلام الفنان، والاقتصادي العالمي المليونير فيما بعد، إبراهيم الكردي صورة من المطابخ الداخلية للطباخ وهو يحرك بمغرفة كبيرة محتويات قِدر كبير من الوجبة التي ستقدم للطلبة، وهو يترنم بالأغنية الشعبية «فَوٍر يقدري فور يا قدري»، فما كان من أحد الطلبة المحررين - والأرجح أنه عامر- إلا أن اقترح إكمال الشطر الأول من هذا البيت من الأغنية الشعبية بشطر ثان يقول: «والطالب ما يدري، الطالب ما يدري»، كناية عما يمكن أن تحتويها الوجبة من مكونات الله أعلم حقيقتها، وتجد تعليقاً آخر يظهر الأستاذ المميز الدكتور علي نايفة رأسه الأصلع وقد كتب عامر تعليقاً تحت الصورة يقول: العقول النيّرة في الرؤوس اللامعة.
وفي النتيجة جاء هذا الكتاب الأول حالة فريدة من نوعها، ولكن سرعان ما تغلب المزاج العام برفض الخروج على التقاليد الراسخة؛ لذا لا عجب أن اتخذ الكتاب في سنوات لاحقة هيئة الكتب السنوية في الجامعات الأخرى من نمط كلاسيكي ما زال سائدا حتى الوقت الحاضر أي بعد أكثر من أربعين عاماً من مغامرة التعليقات في الكتاب الأول، وكان عامر عضو هيئة الكتاب السنوي المشكلة من قبل رئيس الجامعة وسكرتير تحرير الكتاب لمدة عامين متاليين.
أما جهود عامر «الطالب» في جريدة «صحافة اليرموك»، فحدث ولا حرج عن محرر نابه، ومندوب جريء ومقتحم، وكاتب ذي قلم مبشر، وكل هذا أثبتته الأيام والسنون اللاحقة فيما حققه من مكانة مرموقة في الصحافة المحلية والعربية، وبالإضافة إلى ذلك، أشهد لعامر أنه كان طالباً مجتهداً وملتزماً، وكان له وهو الطالب المبتدئ، رأيه المستقل والحصيف في الإخراج والمونتاج والتنسيق.
وفي مهرجان جرش، كان على الدوام في مقدمة مجموعات «الأشرز»، بل قل إنه كان من بين الأبرز بينهم في كثير من المواقف، و»الأشرز» عمل ميداني لم يكن لمهرجان جرش أن تدور عجلته التشغيلية دون جهود «الأشرز»، فكنت تجدهم في كل مكان، يتحركون بموجب آلية تنظيمية دقيقة وضعها لهم مدير المهرجان ومؤسسه الدكتور مازن العرموطي، بحيث كان الزائر أنى وُجد وكيفما التفت يجد واحدًا أو أكثر من «الأشرز» يهب لتقديم مساعدته في أي أمر كان، وأما عامر فقد أصبح في يوم وليلة قريباً من قلب فيروز، ومحمود فهمي، وفريدة فهمي، والفرقة القومية التونسية، والفرقة القومية الجزائرية، وغيرها من الفرق، ونجده يشارك الفنان المصري محمد عوض في رقصة في فندق تايكي في عمان بعد نهاية عروض المهرجان في يوم من أيامه.
هذه هي صورة عامر التي ظلت عالقة في ذهني طيلة أربعين عاماً، وكنت أتابع أخباره عن بعد، وعرفت أنه حقق مكانة مرموقة في عالم الصحافة في منطقة الخليج، كاتباً معروفاً، ومحرراً نابها، ومسؤولاً كبيرا في الصحف المهمة في أكثر من بلد عربي، ولا سيما في الكويت وقطر والإمارات العربية المتحدة.
وعلى أن عامرًا ورغم غربته، ظل حاضراً في الوطن وعند من عرفوه مثلي، واستمر نشاطه الممتد إلى الجهات الأربع من خلال مقالة هنا أو تحقيق هناك في صحافتنا المحلية إلى أن اختار الدستور الغراء التي تمتد علاقته بها إلى عقود طويلة ليكتب فيها زاويته الشهيرة «حريص»، وجاء في يوم قبل العام الماضي، وإذا بصوت عميق رصين على الهاتف شق طريقه إلى أذني وأعماقي معاً، صوت مجبول بالمودة التي يلتقطها وجدانك قبل أذنك بسرعة البرق: أنا عامر طهبوب يا دكتور، كيف حالك يا شاغل الكرسي؟
لم يعطني فرصة للرد، بل بادر إلى القول: هل أنت مداوم في مكتبك غداً؟ وكانت زيارته لي في اليوم التالي حدثاً سعيداً، جاء عامر محملاً بأنفس الهدايا التي يعرف جيداً بما يعرفه عني أنها عشقي الدائم، وكان يحمل لي إصداراته المتنوعة من كتب تتسم بحسن التنسيق وتنوع الموضوعات بين مختلف فنون الكتابة الأدبية والإعلامية، وكم أعجبتني منها مثلا رواية «في حضرة إبراهيم» التي انكببت على قراءتها مباشرة بعد مغادرة عامر.
لاحظت أن عامر استطاع فيها أن يقدم عملاً سردياً مكتملاً يستوفي شروط العمل الروائي، مع زاد فكري سخي ونزوع تسجيلي واع لبيئة حميمية ذات شخصية إنسانية واجتماعية متمايزة، وبلهجة حوارية سلسة ذات مذاق فني طازج، لهجة محلية نابعة من بيئة تجمع بين الأصالة والطابع المديني الذي عرفته المدن العربية العريقة في الشرق، إضافة إلى صور نابضة لأوجه الحياة المختلفة في هذه البيئة الحميمية، تملأها حياة وحيوية شخوص من شتى المهن، ومختلف الأجيال، وشتى الطبائع والمشارب. إنها مدينة الخليل في لحظة تحول من مجتمع البلدة إلى مجتمع الطبقة الوسطى الأقرب إلى النموذج المديني بطابعه الشرقي العريق وبما تحمله هذه الطبقة من قيم العصامية والتعاضد الأسري والمكاني.
ونستمر على تواصل، أطمئن عليه ويطمئن علي، وكان دوماً صاحب الفضل والمبادرة، على أن القدر كان بالمرصاد، فقد أبت صروف الدهر ألا يبقى المجد المهني الذي حققه بعصاميته وكفاحه الطويل مقترنا بالبهجة والفرحة باكتمال أركان الأسرة؛ فكانت الفجيعة بابنه زين الشباب محمد في حادث سير مأساوي، وكان بودي أن أختم هذه المقالة بإشارة إلى حالة التفاؤل والغبطة التي رأيتك فيها يا عامر وكنت أتبينها في نبرات صوتك في كل تواصل بيننا، ولكنني على يقين بأن نشأتك في رحاب أبينا إبراهيم، وصلابتك المعهودة من شأنها أن تلهمك جميل الصبر وحسن العزاء، ومن شأنها كذلك أن لا تحرمنا طويلاً من عطائك الفكري ونتاجك الأدبي والإعلامي الزاخر، بل أدعو الله أن تكون مسيرة عطائك بعد هذا الحدث الذي تنوء بحمله الجبال بمثابة رسالة إلى صروف القدر تعجز عن استجماع عباراتها والإحاطة بمعانيها ودلالاتها كل ما عرفناه وما درج على ألسنتنا من عبارات العزاء وكلمات المواساة.