بقلم: بروفيسور خالد واصف الوزني
أستاذ الاقتصاد والسياسات العامة
كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية
الرقمنة باتت المحدِّد الرئيس للتوجُّهات العالمية في كافة الفضاءات؛ الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وحتى العسكرية. وبات التطوُّر الرقمي فضاءً عالمياً يتجاوز الحدود والمحددات، ويغزو العالم عن بُعد في باطنه قبل ظاهره. ومن هنا ظهر مفهوم الاقتصاد الرقمي الذي يشير إلى تطوُّرات عمل القطاعات الاقتصادية الحقيقية والمالية، بفعل الثورة المعلوماتية والتقنية التي تفرضها أو تقدمها الرقمنة في كافة أوجه العملية الإنتاجية.
وسواءٌ تحدَّثنا عن قطاع الصناعة أو الزراعة أو الخدمات، أو حتى التسويات المالية والخدمات المالية، فإنَّ الاقتصاد الرقمي بات محدِّداً رئيساً في تطوير وتحسين وتجويد الإنتاجية والشفافية، ورفع مستوى الكفاءة في الأداء، وتحقيق انطلاقات أو اختراقات نوعية حول العالم.
وفي هذا الإطار بات من المتوقَّع أن يشكِّل الاقتصاد الرقمي، بالمفهوم المباشر، ما يزيد على 15% من حجم الاقتصاد العالمي خلال السنوات القليلة المقبلة، وبات من الواضح أنَّ القيمة المضافة لذلك القطاع في عمل القطاعات المختلفة ستتجاوز 13 تريليون دولار، أي ما يقرب من 11% من حجم الاقتصاد العالمي اليوم.
وقد باتت منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من أكثر المناطق اهتماماً بتوظيف استخدامات الذكاء الاصطناعي والعمل على إدماجه ضمن القطاعات الاقتصادية المختلفة، وهو ما جعل بعض الدراسات تشير إلى أنَّ حجم الاستثمار في التحوُّل الرقمي في المنطقة سيصل إلى ما يقرب من 74 مليار دولار بحلول عام 2026، مع اعتماد أهداف رقمية تشير إلى ارتفاع الدخل الفردي في المنطقة بما نسبته 46% خلال العقود الثلاثة المقبلة، وذلك في ظل تحقيق مكاسب نوعية من اعتماد الاقتصاد الرقمي في المنطقة، تصل إلى ما يقرب من 1.6 تريليون دولار، أي ما يصل إلى خُمس الناتج المحلي الإجمالي الحالي للمنطقة العربية.
بيد أنَّ دول المنطقة العربية مرشَّحة أيضاً لولوج عالم صناعة وإنتاج الاقتصاد الرقمي من أوسع أبوابه عبر الاستثمار في الشباب وتحفيزهم وتأهيلهم، وبناء قدراتهم، وتوفير المعرفة والعلوم المطلوبة لهم، ليكونوا القوة الداعمة لعجلة وتوجُّهات الرقمنة في المنطقة والعالم، مع التركيز بشكل خاص على مجال مواجهة التحديات التي تفرضها الرقمنة على الحياة الاقتصادية الكلية للدول، وكذلك ما يواجهه الأفراد من اختراقات وانتهاكات لخصوصيتهم عبر اختراق "تهكير" قنوات الرقمنة، والتجسس عليها، بل والوصول عبر تلك القنوات إلى موقع أي شخص في العالم .
والمطلوب اليوم أن تسعى العديد من الدول في المنطقة لتوجيه إمكانات الشباب نحو توفير الحلول المطلوبة في مجالات الأمن الرقمي المختلفة، من قبيل ما يُسمّى الأمن السيبراني بشكل خاص، وهذه ستفتح وظائف كبيرة للشباب، خاصة أنَّ العديد من متطلباتها لا يفرض الحاجة إلى التواجد في مكاتب أو العمل عن قُرب، أو حتى العمل ضمن ساعات وهيكلة عمل محدَّدة.
وهو ما يمكن أن يجعل المنطقة مخزناً للخبرات الرقمية، ومُصَدِّراً عالمياً رئيساً لخدمات الأمن الرقمي من برامج وتطبيقات وعمليات نوعية وابتكارات. الأمن الأرقمي سيشكِّل أكبر وظائف مطلوبة حول العالم؛ لأن التحدي الأكبر، ليس فقط من "تهكير الحسابات" أو اختراق المعلومات، وإنما في حماية الشخصيات، وفي تأمين الدفاع والأمن العسكري الرقمي للدول، وفي صدِّ الهجمات على الأفراد والجماعات والمناطق والدول.
المنطقة العربية كلها مؤهَّلة لأن تُكَوِّن مصنع، ومقر "منظومة الدفاع والأمن الرقمي للعالم" لمواجهة اختراق الحدود والخصوصية والتحصينات، وحتى اختراق البرامج والتطبيقات حول العالم.
khwazani@gmail.com