أخبار اليوم - لم يخطر في بال الإمام أن طلبه من المصلين بأن يسوّوا الصفوف ويسدّوا الخلل، سيكون لتهيئتهم للاصطفاف لأداء صلاة المودّع، وترتيب وقفتهم لتلقي آجالهم التي ستكون بعد ثوانٍ من بدء الصلاة.
"كُتبت الشهادة على الذين حضروا تكبيرة الإحرام، لم ينجُ أحد من المصلين، إلا من كان في المتوضأ"، يقول أحد الشهود.
كان المصلون في أول ركعة من الفريضة، وكان آخر ما نفد من مكبرات الصوت تلاوة الإمام لأول آية من سورة الفاتحة، قبل أن تُفرغ الطائرات الإسرائيلية حمولتها على أجسادهم بـ3 صواريخ، اخترق اثنان منها السقوف الثلاثة، وسقطا تباعا على المنبر وفي منتصف المصلى، وباغتهم الثالث من الجهة الشرقية.
قامت القيامة
"قامت القيامة"، توصيف أجمعت عليه الناجيات اللواتي هرعن إلى المصلى حين وقوع الغارة للبحث عن رجالهن.
أكثر من ساعة والسيدات يقفن أمام المصلى الذي تُخفي النيران معالمه، بعجز تام عن التقدّم، وبرجفة ترتعد فيها ضلوعهن، ووجومٍ من عدم القدرة على استيعاب ما ترى أعينهن، نحيب وصراخ من داخل النيران وخارجها، تختلط الأصوات، وصوت النار تنهش اللحم والعظم طغى على كل صوت.
وبينما كن ينتظرن أن تشبع النار وتُخمد، طلّت سيدة من الطابق العلوي عليهن بجسدها المشتعل، تُباعد بين قدميها وتفتح ذراعيها وتصرخ من ثغرها الذي تكاد تأكله النيران "أمل أمل".
نادى عليها الرجال بأن تقفز وأنهم سيتلقفونها بغطاء، وهي تصرخ "أمل" وتشير إلى ابنتها التي تحترق مع أطفالها أمامها. استشهدت أمل وأولادها حرقا، وبقيت والدتها في غيبوبتها تدخل فيها وتخرج منها وهي تهذي "أمل ابنتي أمل".
خَمدت النار بعد أن التهمت كل شيء، وهمّت كل امرأة في البحث عن رجلها، حملت سوزان كشافَ مصباح هاتفها وهي تردد في أذن ولدها وكأنها تلقنه درسا عليه ألا ينساه :"كان قميصه أزرقا، أبحث عن أجمل رجل يرتدي قميصا أزرقا"، تقصد بذلك زوجها.
لكن كل شيء كان أسودا، "يبدو أن عيبا في الكشاف الصغير الذي أحمله"، قالت وهي تركض باتجاه غرفة نزوحها، وأحضرت كشافا بضوء أقوى، نزلت مرة أخرى حتى تعاود البحث عن كنزها المفقود، لم تجده بل بالأحرى ربما وجدته لكنها لم تتعرف عليه.
صوتٌ من الناحية البعيدة لامرأة تجر قدميها معتمدة على جهاز المشي "الووكر" ترفع إصبعها السبابة وتجهش: "لو ظل منهم واحد بس، لو خليتلي واحد يا رب". تجهش بالبكاء وهي تضرب على ركبتيها وتقول: "لم أكن أحتاج عكازا لشيخوختي وهما معي، على من أستند الآن؟".
قاطعها صوت من الداخل لرجل يكبّر كأنه انتصر على الموت، هرع إليه المسعفون: "عايش؟"، فأجاب: "لا، كامل، لقيتو كامل، مش مفتت، مش أشلاء، الحمد لله"، يبكي لأنه وجد ضالته بهيئة أفضل مما توقعها، لأن الجثمان الكامل في حرب الإبادة هذه نعمة تستوجب الشكر.
لماذا يُحبنا الموت فيحتضننا للحد الذي يدفعه للفتك بنا، فيمزقنا ويفتتنا ويقطّعنا إربا، ثم يخلط بين أشلائنا ويمنحنا تقسيمته المجحفة؛ "كل 70 كيلوغراما أشلاء تعادل جثة، ضعوها في كيس واحد"، يتساءل الغزيون.
قتلوا كل الرجال
بعد 4 أيام من مجزرة مدرسة التابعين في غزة، زارت الجزيرة نت مسرح الجريمة، لا يمكن أبدا تجاوز الرائحة المنبعثة من السجاد الغارق بالدماء والفراش المتشرّب منها، رغم أن الرجال نحّوه جانبا، ولا مشهد الذباب يتجمهر حول جزء من فروة رأس أحد الشهداء، ولا الأشلاء الملتصقة بالأسقف والحوائط، ولا المصاحف المخضبة بدماء المتعبّدين.
رغم أن عشرات الفتية والشبان يحاولون تنظيف مكان المجزرة وإزالة آثار الدم المسفوك، لكن كل البراهين تفضح وقوع مذبحة في مصلى التابعين.
خلال رصد المكان، قطعت طريقنا سيدة سبعينية، قالت للجزيرة نت: "راحت هيبة المدرسة يمّا، رجالنا كلهم راحوا، قعدنا بعد المجزرة 3 أيام ما نشوف الأكل، كانوا مسؤولين عن كل شيء". رفضت الجلوس لإجراء مقابلة معنا متعللة بقولها: "انتهى الكلام، لا فائدة من المقابلات، خسرنا كل شيء ولا أحد يسمع".
تجلس فاطمة الزهراء (18 عاما) قبالة المصلى وحدها، قطعت الجزيرة نت خلوتها بسؤال: "لماذا تجلسين هنا؟" أجابت: "صديقتي إسراء كانت هنا، كانت نازحة بالغرفة الملاصقة للمصلى، رحلت صديقتي وأبوها وأمها وأخوتها الخمسة". سألناها: "هل فقدتِ أحدا غير صديقتك؟" لترد: "فقدنا هيبة المدرسة، هيبة المدرسة راحت".
وبدأت بالإشارة: "هنا كان يجلس الطفل أحمد بائع الثلج، لقد استشهد، وهنا كان يقف الإخوة الثلاثة يبيعون الصاج استشهدوا جميعا، هذا مربع النار والحطب كل الرجال الذين كانوا يذكونها رحلوا، لا صوت أذان، رحل المؤذن والإمام والمصلون، رحل كل رجال المدرسة".
عدد الرجال الناجين من هذه المجزرة لا يتجاوز أصابع اليدين، قابلت الجزيرة نت أحدهم الشاب مهدي حسان الذي قال: "كنتُ أستعد للوضوء لكن قوة ما قذفتني خارج المصلى لمسافة 15 مترا". ويكمل: "صرتُ أصرخ: كابوس، ثم أتمتم بالشهادتين ثم أصرخ: حلم ولّا عِلم؟ ثم أعاود التمتمة".
بدأ حسان بتفقد جسده، نظر لذراعه فوجده مفتتا بلا عظم والشظايا اخترقت جسده، التفت حوله فوجد نفسه الحيّ الوحيد بين مئات الجثث والأشلاء، نارٌ وبارود، وصرخات من الداخل والخارج، تحسس قدميه ولمّا وجدهما صار يزحف بعيدا عن بقعة الموت التي قُذف فيها.
"من تعرف من الشهداء؟" سألته الجزيرة نت؛ فأجاب بعدما حبس الدمع في عينيه: "الـ100 أكثر من أصدقاء ومن آباء ومن مشايخ، 9 شهور ونحن كعائلة واحدة لا يفارق بعضنا بعضا"
أكاذيب الاحتلال
في ممر مدخل المدرسة قابلت الجزيرة نت أم زياد الجعبري والدة شهيدين قضيا في المجزرة مع عدد من أحفادها، وهي ترعى شقيقها التسعيني المصاب الذي خرج من تحت الأنقاض لحظة الاستهداف.
شدّت أم زياد على ذراعي حتى آلمتني وقرّبت فمها من أذني وهمست كأنها ستقول سرّا كتمته طويلا: "حين ولدته قالت لي الحكيمة لو كان بنت كان جبلك مهر أكثر من 4 آلاف دينار، ما أحلاهم ولادي يمّا ما أحلاهم". ثم أكملت: "كل الدلال اللي مخلوق بالدنيا كانوا يعطوني إياه، هما ولدان لكن عن ألف ولد".
مُنعت أم زياد الجعبري من رؤية ولديها وأحفادها الشهداء، ولم يسمحوا لها بالذهاب لوداعهم، فقد كانوا جثثا متفحمة وتقول: "بس لو شمّيت ريحتهم بس".
كما أنها تردّ على ما سمته أكاذيب الاحتلال الذي أدرج اسمي ابنيها كناشطين في المقاومة مع 18 آخرين لتبرير المجزرة، بتأكيدها: "ابني كان عاملا في الداخل المحتل، لو كان مطلوبا هل كان سيصدر له تصريحٌ للعمل فيها أو الدخول إليها؟".
وهو التفنيد نفسه الذي قاله والد الشهيد شادي الزعيم الذي نشر اسمه الاحتلال وزعم أنه من المطلوبين الذين تم القضاء عليهم: "ابني يعمل في محطة بنزين، من المحطة للبيت ومن البيت للمحطة، كما أنني مكثت سنوات أتردد على أراضي الـ48، وأعبر حاجز بيت حانون (إيرز)، هل لو كان على أحد أبنائي نصف شبهة لتمكنت من العبور؟".
يحدّث أبو شادي الجزيرة نت وهو يسكبُ طعام التكية لأهالي المدرسة، ويقول: "ابني البكر كان عريسا تزوج قبل الحرب بأيام وزوجته أنجبت بالحرب".
رافقناه حيث مكان ارتقاء ولده، كان يحفظه جيدا، ويضيف: "مشيت على أكوام من اللحم، دعست على برك من الدم، كانت الرؤوس والأمعاء متطايرة في الساحات الجانبية"، ويردف: "لذا كانت فرحتي بأن وجدته جثة كاملة لا توصف، كان السجاد قد التف عليه، لكن شظية كبيرة اخترقت رقبته، ارتقى رافعا إصبع السبابة".
عادت معظم العائلات التي كانت تتخذ المدرسة ملجأً لنزوحها إليها رغم مخاطر البقاء والعودة، خاصة مع تركيز الاحتلال هجماته مؤخرا على المدارس التي تؤوي النازحين، مجمعين على قولهم: "لا خيارات، لا بدائل فأين نذهب؟".
في مدرسة التابعين وخلف ستار كل غرفة رحل رجالها، وفي قلب كل من فُجع بالفقد المروّع، وفي وجوهٍ حَفر فيها القهر أخاديد بؤس عميق، هناك شهادة مرعبة، يختمها الضحايا بأسئلة مفتوحة؛ لماذا لم يستهدفوا المطلوبين خارج المدرسة؟ هل رصدت الكاميرات ولو حديدة واحدة داخل المصلى؟ متى تخرق غارات استهدافنا جدار الصمت العربي والإسلامي والدولي؟ متى يقف كل هذا؟ من يُوقف كل هذا؟