د.محمد يوسف أبو عمارة
لطالَما تسائلتُ لِماذا تتغنى مُعظَم الأَغاني بالفَتيات السَّمراوات ولا تتحدَّث عَن الفَتيات البَيضاوات بالرُّغم بأنَّ الغالبيَّة تَميل للفَتاة البيضاء دونَ السَّمراء حَسَب البيئة المُحيطة بي ، ومَع تَغيُّر المَفاهيم وصُعوبَة الظُّروف الماليَّة في الأردن أصبَحَ المَيل للفَتاة التي تَعمل بِغَضّ النَّظَر عَن لونها ... أو شكلُها ...أو صحتها …
وفي مَرحلة ما قَد يَبحَث الفَرد عن استِقرار عاطفي أو نفسي ، ويَستَثني الشَّكل واللَّون ولكن وبغَض النَّظَر عن - الأذواق التي لولا اختلافُها لبارَت السّلَع .. يَبقى السُّؤال لِماذا تَغَنَّت مُعظَم القَصائد بالسُّمُر دونَ البيض ؟!
وعِندَما بَحَثتُ بالمَوضوع وجَدتُ آراء مُختَلِفة ومُتَبايِنة في المَوضوع ولا أحِبُّ مُناقَشَتِها هُنا لأنَّها تنمُّ عن صِرَاع يَجِب ألّا يَكون مَوجوداً مِنَ الأصل فالبعض حمل راية الدفاع عن البيض والآخر عن السمر في صراع مبتذل لا داعٍ له .
لأنَّ الجَمال مِن وِجهَة نَظَري لا يُقاس بِلَون أو طول أو شَكل وإنَّما هُوَ مَجموعة مُواصَفات تُشَكّل الشَّخصِيَّة المُتَكامِلة التي قَد تَختَرِقُ القَلب حُبًّا أو تخترقها إعجابًا أو ... تخترقها كُرهًا …
رَكِبتُ سَيّارَتي ، وبِمُجَرَّد أن أدَرتُ مقبَض البنزين وإذ بِفَيروز تَشدو ...
سَمرا يا إم عيون وساع ... و التَّنورة النيليّة
مطرح ضَيّق ما بيساع ... رح حُطّك بعينيّي
يا عيني عَ هالعينين ... الْ عَ دِنية ورد انفتحوا
وكيف ما التَفَتوا عالمَيْلَين ...
قلوب قلوب بيندِبحوا ...
في نجم بلفتاتِك ضاع ... حكيت عنك غنّية
و سِحرك يللي ما بيِنبَاع ... مبكّي الوردة الجوريّة
شو هالجَمال يا فَيروز ... شو هالوَصف الرّاقي والنّاعِم وبنَفس المَوضوع ... سُبحانَ الله كُنت أفَكّر في موضوع السُّمُر والبيض ...
بحثتُ في هذه الأُغنية فعَلَّ هناك سبَبًا لِكتابَتِها وخاصَّة بمُقَدّمَتِها ويكأن الكاتِب يَصِفُ شَخصًا يَراهُ بعَينِه ويَصِفُ مَوقِفًا بِحَدّ ذاتِه ...
وبالفِعل وَجَدتُ أنَّ لَها قِصَّة جَميلة أوردها لَكُم ...
ذَهَبت فَيروز بِرِفقَة زَوجِها عاصي لبيت الشّاعر ( زين شعيب ) والذي كان قد أصرَّ كَثيراً على أن تَزوره في بَيتِه ليَهديها أغنِية وَذَهَبَت فَيروز للزيارة وكانَت تَرتَدي تَنّورة بِلَون نيلي وكانَ بيتُ الشّاعر مُزدَحِماً بالزُّوار ولَم يَجد فَيروز وعاصي مَكاناً للجُلوس فَعاتَبَت فيروز الشَّاعِر زين
وقالَت : " وَين بَدنا نقعُد يا زين "
فَردَّ بِذَكاء ومَوهِبة :
سَمرا يا إم عيون وساع ... و التَّنورة النيليّة
مطرح ضَيّق ما بيساع ... رح حُطّك بعينيّي
وبهذه الجُملة الرَّقيقة رَدَّ على عِتاب فيروز بطريقة لطيفة وجميلة ومليئة باللطف نتعلّم منها كيف نمتص غضب الآخر ونجعله سعيدا ً بعبارات بسيطة .
وبعدَ ذلك أكمَل الشّاعر الأغنية الجَميلة التي لحّنها الأخَوَين رحباني
لم بتكوني حدّي بشوف .. الدنيي مزارع ورد و فلّ
جوانِح تعباني و رفوف ... حساسين تزَقزِق و تطلّ
و لمَّا الأسرار بتِنزاع ... و بزعل من شِي خبرية
بتقوليلي ارجع ارجع ... و مدري شو بيصير فيّي
ما أبسَط الكَلِمات وكَيفَ يحملك الوَصف للبيئة اللبنانيّة حيثُ تَعيش في مَنزِل الشّاعِر زين ، حيث تَتَخيَّل تِلكَ المَزارِع التي تُحيط بِه وأصواتُ العَصافير - التي تُزَقزِقُ صَباحاً ومَساءً - والغابات والحوار الجميل المستمد من الطبيعة البريئة.
جلسِي لنا و عَالحُب مِجتمعين ...
و تنيننا عالمقعد مجانين ...
وَك قربي صوبي تنحكي شوي ...
عيونك و قلبي و سر هالحلوين ...
مبارح كانت عم بتقول ... عصفورة لإختا بالسر
شالك يا سمرا مغزول ... من لون الزهر المخضر
خليني بعينيك شراع ... قاصد مينا منسيي
و إن شي مرة الزنبق شاع ... خبيلي منو شوي
أيَّتُها السَّمراء اسرقيني واهربي خُذيني مَعك للمَجهول لا بَل ضعيني في عَينكِ شِراع وارحَلي نَحوَ ذلكَ المينا المَنسي في المَكان المَجهول حيثُ لا يوجَد سِوى حسّاسين وأُسَرار بينَ العَصافير
ذلكَ العالَم المَجهول .. الذي يُحيطه الحُبّ والجَمال ..
أيَّتُها السَّمراء ..
يا مَن فَتَحتِ عَيني إلى عالَم مَجهول مِن الَّسعادة والبَساطة .. يا مَن بِكِلمة مِنك تُخفينَ كلَّ الغَضَب والزَّعَل ..
" ولمَّا الأسرار بتِنزاع ... و بزعل من شِي خبرية ... بتقوليلي ارجع ارجع ... و مدري شو بيصير فيّي "
ما هذا الجَمال باللّحن والبَساطة بالكَلِمات ، عَلّ هذا ما نَفتَقِدُه في ما يقدمُ هذه الأيّام مِن الضَّوضاء التي تُذاع هُنا وهُناك تَحتَ مُسَمَّى موسيقي وأنماط جَديدة مِن الغِناء ...
وأعودُ للسؤال في بِداية المَقال ... لِماذا ركَّز الشُّعراء على السُّمر دونَ البيض ، في هذه الأُغنية السَّمراء هِيَ فَيروز وهي المَقصودة دونَ غيرِها ... وهذا يَدُلّ على أنَّ مُعظَم الشُّعراء الذين تغنّوا بالسمر أحَبُّوا فَتَيات سَمراوات .. رُبَّما .. ورُبَّما لا .. لأن معظمهم تغنّى بالسمر دون البيض
المُهِم السَّمراء جَميلة والبَيضاء جَميلة ... والجَمال لا علاقةَ لَهُ باللَّون أبداً
المهم الجمال الداخلي والمزيج بين الشكل والمضمون والذكاء بأنواعه
فالله خلقنا جميعنا نحمل كل سمات الجمال ولكنّ المحب هو من يبحث عن مواطن جمالك ومن لا يبحث عن مواطن ضعفك وهذا هو الحب الحقيقي من وجهة نظري…
وأكرر مع جميلتي فيروز
سمرا يا ام عيون وساع والتنورة النيلية…