د.محمد يوسف أبو عمارة
دَرَجٌ مُزدَحِمٌ ومُحَطَّمٌ كانَ يَفصِلُ بَين مَوقِف الباصات ومَوقِف السَّرافيس بِمُجَمَّع رَغَدان القديم ،حَيثُ كان يَزدَحِمُ بالنَّاس صُعوداً ونُزولاً بِعَشوائيّة كَبيرة ، فوضى عارمة تسيطر على الموقع، حَيثُ تحتلّ المطاعم الشَّعبيّة الجهة اليمنى للدرج صعوداً وعلى الجانِب الآخر مُصلَّى يحدّه مُتوَضّأ وحَمّام شَعبي ...
والمَكان يعُجُّ بِرائحة التَّعب وزَيتُ القَلي والفَلافِل .. أصواتُ الأشخاص تَتَداخَل مَع بعَضِها البَعض لِتُشَكّل ضَوضاء كَبيرة يَختَرِقُها تارة صوتُ بائع الجرائد .. وتارةً أُخرى صَوتُ بائع السّمسميّة .. سِمسِمِيَّة .. سِمسِمِيَّة بِصَوتِه الحاد والرَّفيع والذي يكاد ينخر دماغك ويدخُل إلى مَنطِقة مُعَيَّنة بالأعصاب كَمُنَبّه السَّاعة الصَّباحي !
كنتُ أمرُّ يَوميّاً مِن هذا الدَّرَج ذَهاباً وإياباً كَونه إجباري للتنقّل مِن مَنطِقة سَكَني إلى وَسائل مُواصلات المَناطِق الأخرى ... وفي أحد الأيّام وأثناء نزولي الدرج وكالمُعتاد أسير وسط ضَوضاء تُخفي ورائها الكَثير مِنَ الهُموم والأحداث والأحزان والقهر الذي يظهر جلياً في تفاصيل المشاة ، ويَختَرِقُها أصواتُ الباعة المُتَجَوّلين تارَة .. وصَوتُ الأَذان تارَةً أُخرى .. أو صَوت زامور سيّارة .. فَجأةً ِشَعَرتُ بأنَّ الجَميع صَمَت وعَمَّ السّكون المَكان وتهادى إلى مسَمعي صَوتٌ مَلائكي
يقول ...
تزكر آخر مرة... شفتك سِنتا
تزكر وقتها آخر... كلمة قِلتها
وماعدت شِفتك... وهلأ شِفتك
كيفَك إنتَ... مَلّا إنتَ
يا الله ... ما هذا الجَمال ... ما هذه العُزلَة التي سبَّبها صوتُ فَيروز ... لَم أعُد أسمَع من كُل الضّوضاء سِوى صوتها بحثتُ عَن مَصدَر الغناء فَوَجَدتُ مَحلًّا لِبَيع الكاسيتات والتي كانَت مُنتَشِرَة آنذاك وكَان يعلن عن طَرح شَريط فيروز الجَديد تَحتَ اسم ( كيفَك انتَ )
تمسمرت على بابِ المَحَل ... لأسمعها تشدو مَرّةً أُخرى ...
تزكر آخر سهره ... سهرتا عنا
تزكر كان في وحدة... مضايق منا
هيدي إمي... بتعتل همي
منّك إنتَ... ملّا إنتَ
يا الله ما قِصَّة هذه الأغنية ... مَن هي ومن هُوَ ولِماذا كانَ ( يتضايق من أمها ) ... وتُكمِل ..
كيفك قال عم بيقولو ... صار عندك ولاد
أنا والله كنت مفكرتك ... برات البلاد
شو بدي بالبلاد ... الله يخلي الولاد
كيفك إنتَ ... ملّا إنتَ
وكَمان مسافِر ومِتجَوّز ومخَلّف .. آهٍ مِنك ...
ومع ذلك تَقول لَه ... شو بدي بالبلاد الله يخلّي الولاد ... شو هالحُب وشو هالرومانسية وشو هالرِقّة ...
وتُكمِل ...
بيطلع عبالي... ارجع انا وياك
إنتَ حلالي... ارجع أنا وياك
أنا وإنتَ... ملّا إنتَ
تزكر آخر مرة شو قلتلي...
بدك ضلي... بدك فيكي تفلّي...
زعلت بوقتها وما حلّلتا...
إنه إنتَ... هيدا إنتَ ...
مِش مَعقول هالرّجال شو بيّاع وهي المسكينة معمي على عينيها ومِش مركزة وقبل أن أسرح بخيالي تُكمِل ..
ترجَع عراسي... رغم العيل والناس
إنت الأساسي... وبحبك بالأساس
بحبّك إنتَ.... ملّا إنتَ
الله الله وقفت في الشّارع الذي يَضُجُّ بكم هائل من المُشاة ، الذين كانو كالسيل يجرفون كل من يقف في طريقهم وأنا أصفّر وأُصفّق ... أبدعت فيروز ... الله عليك …
وذهبت لشراء الكاسيت وكان بوقتها كل ثلاث كاسيتات بدينار ... حملت الكاسيت وأنا أتأمّل صورة فيروز وأنتظر الوصول للمنزل لأستمِع للأُغنية مرّة أُخرى ...
ترى ماذا قالت ...وبدأت اقلب ذاكرتي حتى أتذكر كلمات الأغنية…
تزكر آخر مرة... شفتك سِنتا ...
يا الله ما أجمل صوت البيانو ولكن يبدو أنّها فتاة كانت تُحب شاباً وهرَب منها وسافر وتَزوّج وأنجب الأبناء ومع ذلك بقيت تُحبّه .
لو كنتُ مكانها لما نظرت إليه ... ولَما تحدّثتُ معه ولَما قلتله كيفَك إنتَ ... وظلَّ لحن الأغنية يأخذني في كُلّ مرّة إلى منطقة جَديدة يسافر في وينقلني من جوٍ إلى آخر .
ومرّت سنوات وأنا ألعن تِلكَ العاشِقة الحَمقاء التي تُحِب ذلكَ البيّاع حُبًّا وترتضي العَودة له هكذا بدون أن يقدم أي تَضحيات .
وبعد سنوات طِوال عرفت أنّ للأغنية قصَّة جَميلة تختلف عما كنت أفكر فيه وهي : أن إبن فيروز زياد الرّحباني هجر لبنان ليتزوّج بفتاة يُحبُّها... وسافر راكِضاً وَراء حبّه تاركاً أمّه الرافِضة لمَوضوع سفره وزواجِه خلفه ... وعِندَما عاد من السّفر لَم يكن قد أبلغ أحداً بموعد عَودَته
فَقابل والدته صدفة والتي تفاجئت به .. وسألته :
كيفك إنتَ... كيفك عم بيقولو صار عندك ولاد ...
أنا والله كنت مفكرتك برات البلاد ...
وكتب زياد كلمات الأغنية ولحَّنها من وحي هذا الحِوار ...بمثابة رسالة من أم عاشقة لابنها لا تكل ولا تمل من حبه.
ولكن فيروز تردّدت بِغناء الأغنية التي بقيت في ادراجها لمدّة أربع سنوات قبل أن تسمعنا إياها في عام 1991
لذلك قالت فيروز...
ترجَع عراسي... رغم العيل والناس
انت الأساسي... وبحبك بالأساس
بحبّك إنتَ.... ملّا إنتَ
رسالة عِتاب من أم لابنها لكنّها تحمِل في طياتها كل الحُبّ والحنين والمودّة ... وما زلت أحتفظ بِنُسخة كاسيت من هذه ال إلأغنية لغاية الآن ...
وكُلّما أحبّبت شَخصاً صديقاً طِفلاً ابناً زوجة .. قلتُ لَه ...
بحبَّك إنتَ .. ملّا إنتَ ..