اخبار اليوم - الفكر مصطلحٌ يطرق الأسماع كثيراً، وباستقراء معناه في معاجم اللغة يجد الباحث أنّه يدلّ على إعمال العقْلَ في مقدّماتٍ معلومةٍ، وترتيبها بشكلٍ يُوصل إلى كشف مجهول، لذا جاء في تعريف الفكر: إِعمالُ العقل في المعلوم للوصول إلى معرفة مجهولٍ، والفكرة هي الصورة الذهنيّة المتشكّلة لأمرٍ ما، ويمكن القول بأنّ الأفكار هي: تكوّن الآراء في عقل الإنسان نتيجة تدبُّر الأَشياء بالتأمّل، وإعمال العقل وصياغتها على شكل نصوصٍ، ومن هنا فإنّ الفكر يعني إعمال المرء لقدراته العقلية في محصوله الثقافي؛ بهدف إيجاد بدائل لأمرٍ ما، أو حلٍّ لمشكلات، أو كشفٍ للعلاقات بين الأشياء، وتحديد القدر المشترك بينها، ويمكن الاستنتاج بأنّ الفكر ليس مصطلحاً رديفاً للأحكام والمبادئ.
ولا بديلاً عن الثقافة أو العلم، وإنّما هو نشاطٌ عقليٌ يُجري صوراً ذهنيةً لمسائل محيطةٍ من أحداثٍ وأشياءٍ، كما يهدف إلى توسيع الآفاق في النظرة إلى المستقبل، ولذا فليس كلّ عالمٍ مفكّراً، وليس كلّ مفكّرٍ عالماً، على اعتبار أنّ الإلمام بالجزئيات من شروط العالم، بينما ينظر المفكّر إلى الكليّات، وترى المفكّر لا يشغلُ جهده ووقته في الدّخول إلى عالم الجزئيات، على اعتبار أنّها مندرجةٌ تحت ما يبحثون فيه من قضايا كليّةٍ.
خصائص الفكر الإسلاميّ يتميّز الفكر الإسلامي عن غيره من المدارس الفكرية الأخرى، ومنشأ هذا التّميّز أنّه مرتبطٌ ارتباطاً وثيقاً بشريعة الإسلام، وهذا الارتباط هو سبب قوّته وعنوان تميّزه، على اعتبار أنّ الدّين هو الوضع الإلهي الذي يقود ذوي العقول السليمة إلى الاختيار المحمود في شؤون الدنيا والآخرة، ويمكن إجمال خصائص الفكر الإسلامي بما هو آتٍ: الربانية: فالفكر الإسلامي ربانيّ في غاياته ومناهجه، إذ الوحي مصدره، قال الله تعالى: (وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ).
الوضوح: حيث يمتاز الفكر في الإسلام بوضوح المحتوى والأهداف والوسائل، وهو يسير في طريق موازٍ للفطرة التي فطر الله الناس عليها، ومنسجمٌ مع المهمّة التي انتدب الله الإنسان لتحقيقها، وهي عمارة الأرض بالحقّ والعدل، قال الله تعالى: (وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ).
الشمول: حيث إنّ الفكر الإسلامي يتناول كلّ شؤون الحياة الدنيا، ويستوعب كلّ القضايا الروحية ومسائل الآخرة، ويوجّه خطابه الفكري إلى كلّ الشعوب، أفراداً وجماعات، ولا يقف عند زمنٍ دون آخرٍ، ولا يتقوقع في مكانٍ دون سواه. التوازن والتوسّط: وتبع هذه الخصيصة من كون المسلم يُحكّم أفكاره وتصوّراته الذهنية من وسطية رسالة الإسلام واعتداله، قال الله عزّ وجلّ: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا).
فالفكر الإسلامي لا إفراط فيه ولا تفريط، بل موازنةٌ بين متطلّبات الجسد وأشواق الروح وفضاءات العقل، كما يحفظ هذا التوازن في نظرته للحقوق والواجبات، وكذلك في مجال الفردية والجماعة، ويجري كلّ ذلك على نسقٍ فريدٍ منسجمٍ مع روح رسالة الإسلام.
الواقعية والثبات: الفكر في الإسلام ليس خاضعاً للتبديل أو التغيير حسب الأهواء والأمزجة، بل هو فكرٌ ثابتٌ حيث يجب الثبات كما في العقائد والأوامر والنواهي القطعية، لكنّه مرنٌ في كثيرٍ من القضايا الفقهية على اعتبار أنّ الفقه في الإسلام متجدّدٌ في كثيرٍ من الفروع والجزئيات، كما أنّ الفكر الإسلامي في التّصدّي للأفكار الدخيلة التي تقف سدّاً وعائقاً أمام نهضة المجتمع ومصالح العباد. احترام العقل: يحتلّ العقل في الفكر الإسلامي مكانةً رفيعةً، فهو آلة النتاج الفكري، وعليه يعوّل في الفهم والكشف والاستنباط سواءً في التّأمل في عجائب الكون، أو في التّدبر بالنّصوص الشرعية لاستخلاص مقاصدها وبيان دلالاتها، وقد جعل الإسلام العقل مناط التكليف، ورتّب على الإنسان مسؤوليةً في الاستخدام الأمثل لما أكرمه الله تعالى به من نعمٍ يستدلّ بها على كثير من الأفكار والصور الذهنية؛ فقال -تعالى-: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً).
الجهود الفكرية للمسلمين يؤكّد أهل الاختصاص أنّ ثمرة الفكر ونتاجه الحضاري يظهر في العلوم والأحوال والأعمال، وعلى ذلك فإنّ الفكر الإيجابي هو مفتاحٌ للخيرات جميعها، وفي تاريخ الإسلام نماذجٌ عظيمةٌ من العطاء الفكري وما أنتجه من الموروث الحضاري في شتّى المجالات، حيث: صنّف الإمام الماوردي كتاباً فريداً من نوعه في أدب الدنيا والدين، حيث جمع فيه بين السياسة الشرعية والفكر السياسي والتربوي، ولا يخفى النتاج الفكري للإمام الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين، كما أبدع المفكّر الإسلامي ابن خلدون في التصنيف في مجال الفكر الاجتماعي والعمران البشري، وهذا غيضٌ من فيضٍ ما أنتجه الفكر الإسلامي للحضارة البشرية.
أخذ موضوع الفكر مساحةً واسعةً من جهود العلماء قديماً وحديثاً، والتّراث الإسلامي غزيرٌ بآراء العلماء وتصوّراتهم وأفكارهم في شتى المجالات، ويجد المستقرء للتراث الإسلامي هذا جليّاً في كتب التفسير، ومصنّفات علوم الحديث، والآراء الفقهية. اهتمّ المسلمون بتتبّع الحركة الفكرية عبر التاريخ؛ فوقفوا على أصوله، وبيّنوا ضوابطه، وكشفوا عن خصائصه، وعقدوا المقارنات بين الفكر الإسلامي والفكر الإنساني العالمي، وذلك بهدف بيان الصورة الأصيلة للفكر الإسلامي والحالة التي يجدر البناء عليها، خاصةً في ظلّ ما يشهده العالم من تجاذبات فكريةٍ وحضاريةٍ تظهر في المصنّفات الحديثة، والمحاورات المعاصرة حول الفكر الإسلامي وتميّزه. ينادي المختّصون بضرورة أنْ يخوض في غمار الحديث عن أصالة الفكر الإسلامي أهله من المؤهّلين والقادرين على النّظر في المستجدّات والنّوازل، وأنْ يكون لديهم القدرة على التمييز بين الغث والسّمين في الاتجاهات الفكرية المعاصرة.