الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
اخبار اليوم - التوسّل هو جعل الشيء الذي له عند اللَّه تعالى قدر ومنزلة وسيلة لإجابة الدعاء، بأنْ يطلب المتوسّل من اللَّه تعالى أن يعطيه شيئاً ما، أو يدفع عنه ضرراً ما ببركة المتوسل به ومكانته عند اللَّه تعالى.
والتوسل بالأنبياء والصاحين أمرٌ مشروع، ولا يدخل في باب الشرك، ولا يكون حراماً، بل استحب جمهور العلماء ذلك، واستدلوا لذلك:
بحديث عثمان بن حنيف عن أبي أُمامة بن سهل بن حُنيف عن عمّه: (أَنَّ أَعْمَى، أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ اللهَ أَنْ يَكْشِفَ لِي عَنْ بَصَرِي، قَالَ: (أَوْ أَدَعُكَ؟) قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّهُ شَقَّ عَلَيَّ ذَهَابُ بَصَرِي، قَالَ: (فَانْطَلِقْ فَتَوَضَّأْ، ثُمَّ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قُلِ: اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّي مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، يَا مُحَمَّدُ إِنِّي أَتَوَجَّهُ بِكَ إِلَى رَبِّكَ أَنْ تَكْشِفَ لِي عَنْ بَصَرِي، شَفِّعْهُ فِيَّ وَشَفِّعْنِي فِي نَفْسِي)، فَرَجَعَ وَقَدْ كَشَفَ لَهُ عَنْ بَصَرِهِ. [السنن الكبرى للنسائي 9 /245].
وبما ذكره الإمام النووي رحمه الله: "عن العُتبيّ قال: "كنتُ جالساً عند قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم، فجاء أعرابيٌّ فقال: السلام عليك يا رسول الله، سمعتُ الله تعالى يقول: {وَلَوْ أنَّهُمْ إذ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ جَاؤُوكَ فاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ واسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} [النساء: 64]، وقد جئتُك مستغفراً من ذنبي، مستشفعاً بك إلى ربي، ثم أنشأ يقول:
يا خيرَ مَنْ دُفنتْ بالقاع أعظُمُه * فطابَ من طيبهنَّ القاع والأكمُ
نفسي الفداءُ لقبرٍ أنتَ ساكنُهُ * فيه العفافُ وفيه الجودُ والكرَمُ
قال: ثم انصرفَ، فحملتني عيناي، فرأيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم في النوم، فقال لي: يا عُتْبيّ، إلحقِ الأعرابيَّ، فبشِّره بأن الله تعالى قد غفر له" [الأذكار/ ص 206].
وفيما يأتي نصوص العلماء من أصحاب المذاهب الفقهية الأربعة:
المذهب الحنفي: جاء في [فتح القدير 3/ 181] للكمال ابن الهمام رحمه الله: " ويسأل اللَّه تعالى حاجته متوسلا إلى اللَّه بحضرة نبيه عليه الصلاة والسلام، وأعظم المسائل وأهمها سؤال حسن الخاتمة والرضوان والمغفرة، ثم يسأل النبي الشفاعة فيقول. يا رسول اللَّه أسألك الشفاعة، يا رسول اللَّه أسألك الشفاعة وأتوسل بك إلى اللَّه في أن أموت مسلما على ملتك وسنتك ".
المذهب المالكي: قال ابن الحاج المالكي رحمه الله في كتاب [المدخل 1/ 259]: " فالتوسل به عليه الصلاة والسلام هو محل حط أحمال الأوزار وأثقال الذنوب والخطايا؛ لأن بركة شفاعته عليه الصلاة والسلام وعظمها عند ربه لا يتعاظمها ذنب، إذ إنها أعظم من الجميع، فليستبشر من زاره ويلجأ الى اللَّه تعالى بشفاعة نبيه عليه الصلاة والسلام مَنْ لم يزره، اللهم لا تحرمنا من شفاعته بحرمته عندك. آمين يا رب العالمين، ومن اعتقد خلاف هذا فهو المحروم، ألم يسمع قول اللَّه عز وجل: {وَلَو أَنَهُم إذ ظلموا أَنفُسَهُم جاءُوك فاستغفروا اللَّه واستغفرَ لهُمُ الرسولُ لَوَجَدوا اللَّه تواباً رحيما} [سورة النساء]، فمن جاءه ووقف ببابه وتوسل به وجد اللَّه تواباً رحيماً، لأن اللَّه عز وجل منزه عن خُلْف الميعاد، وقد وعد سبحانه وتعالى بالتوبة لمن جاءه ووقف ببابه وسأله واستغفر ربه، فهذا لا يشك فيه ولا يرتاب إلا جاحد للدين معاند للَّه ولرسوله صلى الله عليه وسلم، نعوذ باللَّه من الحرمان".
المذهب الشافعي: يقول الإمام النووي رحمه الله في كتاب [الأذكار/ ص205]، في معرض حديثه عن آداب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم: " ثم يرجع إلى موقفه الأول قبالة وجه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فيتوسل به في حقّ نفسه، ويتشفَّع به إلى ربه سبحانه وتعالى ".
المذهب الحنبلي: قال الإمام المرداوي رحمه الله في كتاب [ الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف 2/ 456]: " ومنها: يجوز التوسل بالرجل الصالح، على الصحيح من المذهب، وقيل: يستحب، قال الإمام أحمد: يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في دعائه وجزم به في المستوعب وغيره، وجعله الشيخ تقي الدين كمسألة اليمين به، قال: والتوسل بالإيمان به وطاعته ومحبته والصلاة والسلام عليه، وبدعائه وشفاعته، ونحوه مما هو من فعله أو أفعال العباد المأمور بها في حقه: مشروع إجماعاً، وهو من الوسيلة المأمور بها في قوله تعالى: { اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } [المائدة: 35]".
ومما يجدر التنبيه عليه بأن مسألة التوسل تعتبر من مسائل الفقه الظنية التي يسوغ فيها الاختلاف، ومع ذلك رأينا جماهير علماء المسلمين من أتباع المذاهب السنية الأربعة قالوا بجوازه، بل استحبابه، ولذلك نجد أن العلماء السابقين ذكروا هذه المسألة في باب صلاة الاستسقاء أو باب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعدّوها من مسائل العقائد.
وأمّا جعل هذه المسألة من مسائل الاعتقاد التي ينبني عليها التكفير والتضليل فهو من الغلو الممنوع، ويعدّ ذلك مدخلاً للتكفير.
والمسألة شبه متفق عليها، إلا أنها من مسائل الفروع التي لا يجوز الإنكار فيها وإحداث الشقاق والنزاع، ومن المعلوم أنه لا يسوغ الإنكار في المسائل الفقهية الظنية، فضلاً عن التكفير والتبديع والتضليل، فلا يجوز رمي الناس واتهامهم بالشرك والكفر بسبب مسألة فقهية ظنية، الجمهور على جوازها. واللَّه تعالى أعلم.