أخبار اليوم - وهو يقترب من عقده التاسع، ما زالت تجربة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) -ومؤسساتها وموظفوها- تشكل إلى اليوم محور حياة اللاجئ الفلسطيني يوسف أبو النعاج المقيم في إحدى مناطق البقاع اللبناني، وصداقاته. فالمربي المولود عام 1935 في صفورية شمالي فلسطين المحتلة، واللاجئ مع أهله بعد ذلك إلى لبنان، عمل أولا مدرسا في مدرسة للأونروا في مخيم نهر البارد في العام 1954، في حين تولى شقيقه الأكبر أحمد إدارة المخيم.
بعد انتهاء الأونروا من تشييد مخيم النبطية في أقصى جنوبي لبنان عام 1956، انتقل المدرس الشاب للعمل في المدرسة التي أقيمت فيه. ثم تزوج بعد ثلاثة أعوام من يسرى عايش مديرة قسم الشؤون الاجتماعية في الأونروا في المخيم ذاته، حسب مدونة نشرها عام 2023 على وسائل التواصل الاجتماعي. وفي المدرسة التي تتلمذ فيها أولاده الخمسة الذين ولدوا تباعا، أصبح هو نفسه في العام 1972 مديرها. أما أطفال المربي المذكور فلم يرتادوا المطعم الذي أنشأته الأونروا في المخيم كسائر أقرانهم، لكنهم استفادوا من خدمة العيادة التي بنتها هذه المنظمة، واختارت لها الأطباء والممرضين والصيادلة.
إلى يومنا هذا، ظل أبو النعاج وفيا لصداقاته مع زملائه المدرسين -الذين تتلمذ بعضهم على يده- ولسائر موظفي الأونروا هناك. وهو ما زال يحتفظ بسجل بأسماء أفراد المجتمع الصغير الذي أنشأته الأونروا في كل من النبطية والبقاع، التي انتقل للعمل عام 1982 في إحدى مدارسها بعد تدمير إسرائيل المخيم الأول ومدرسته، وبقي فيها إلى أن تقاعد عام 1990.
منذ أواسط الثمانينيات، يتعرض التراث التعليمي والإغاثي، الذي بنته هذه الوكالة خدمة لأبي النعاج وأمثاله من اللاجئين الفلسطينيين في مناطق عملها، إلى حملة منهجية تديرها حكومات اليمين الإسرائيلي وأوساطه البحثية، بتواطؤ مكشوف من إدارتي الرئيسين الأميركيين دونالد ترامب وجو بايدن، خدمة لأجندات سياسية أوسع نطاقا. وهو أمر لم يكن واردا في السنوات الأولى لتأسيس الوكالة بقرار أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة، حمل الرقم 302، في 8 ديسمبر/كانون الأول 1949، وعلى أساس ولاية تجدد كل ثلاث سنوات بغرض إغاثة نحو 750 ألف لاجئ فلسطيني.
يقول حلمي موسى الباحث الفلسطيني المتخصص في الشؤون الإسرائيلية والمقيم في غزة، عن موقف إسرائيل من عمل الأونروا في قطاع غزة بعد العدوان الثلاثي عام 1956 إن إسرائيل "تعاملت مع الأونروا والقوات الدولية التي كانت على حدود القطاع من عام 1957 إلى العام 1967". ويضيف للجزيرة نت أنه "طوال فترة الاحتلال الإسرائيلي للضفة والقطاع كانت الأونروا تعمل وتدير شؤون اللاجئين الفلسطينيين التعليمية والصحية في كل مخيمات وأماكن وجود اللاجئين في الضفة والقطاع من دون عراقيل. بل إن الأونروا ظلت تعمل في مخيمات شعفاط وقلنديا وحتى في مدينة القدس حيث أعلنت إسرائيل ضم كل هذه المناطق رسميا إلى أراضيها. أي أن إسرائيل تعاملت مع الأونروا حتى داخل ما صار يقال عنه إنها أراض سيادية إسرائيلية".
ويستدرك موسى قائلا "لا يعني هذا الكلام أن إسرائيل كانت راضية تماما عن الأونروا. ولكنها كانت تتقبل الأونروا في زمن الاحتلال لأنها تسهم في تمويل الكثير من الخدمات الأساسية لجزء كبير من الفلسطينيين. تقريبا، ثلثا السكان في غزة وربما ثلث السكان في الضفة". ولخص الأميركي جون ديفيس مدير الأونروا في عام 1959 رؤيته لدور الوكالة في تلك الحقبة المبكرة بأنه بمثابة "تكلفة منخفضة الثمن يدفعها المجتمع الدولي مقابل عدم حل المشاكل السياسية للاجئين الفلسطينيين".
لكن موقف إسرائيل من الأونروا ما لبث أن بدأ يتغير في النصف الثاني من الثمانينات مع اندلاع الانتفاضة الأولى في الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1987، متخذا صفة التشكيك في حيادتها. فقد زعمت إسرائيل أن بعض موظفي الأونروا أعضاء أو مؤيدون لتنظيمات فلسطينية مقاومة، وادعت أن مركبات الأونروا تُستخدم لنقل المقاتلين والأسلحة، وطالبت بمنحها الإذن لتفتيش مركبات الوكالة. بالمقابل تذرعت الأونروا حينها بالحصانة الدبلوماسية لموظفيها، واعترضت على فحص مركباتها.
بعد إنشاء السلطة الفلسطينية عام 1994 تنفيذا لاتفاق أوسلو، تغير الحال حسبما لاحظ الباحث حلمي موسى. وقال إن الحديث عن حقوق اللاجئين زاد "وصار ينظر للوكالة على أن وجودها يخلّد قضية اللاجئين ولا يمحوها. وتبين زيف الشعار الصهيوني بأن الكبار يموتون والصغار ينسون. وصار الحديث عن القضاء على الأونروا هدفا معلنا وبالتعاون مع أميركا". بالمقابل كانت إسرائيل في أوقات الحروب والأزمات تزيد في اتهاماتها للأونروا، حسب المتحدث، "بقصد واضح وهو إشعار الفلسطينيين بأنه لا ملاذ لهم منها وأن لا حماية دولية لهم". وزاد "وطبعا هذا يسهم في تيئيس الفلسطينيين من مواصلة الصراع من أجل حقوقهم".
في العام 2014 زادت نبرة التحريض على الأونروا في الإعلام الإسرائيلي، حيث نشر رئيس تحرير موقع "تايمز أوف إسرائيل" دافيد هوروفيتش مقالا في الأول من أغسطس/ آب 2014 بعنوان: "المشكلة مع الأونروا"، أشار فيه إلى أن الوكالة "تعمل بموجب تعريف مختلف عن تعريف المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وتقدم المساعدة ليس فقط لأولئك الذين ما زالوا على قيد الحياة بين لاجئي سنة 1948، ولمن فقدوا منازلهم ووسائل العيش بعد حرب 1967، ولكن أيضا -وهذه هي النقطة الحاسمة- لأحفادهم". لذا، "فبدلاً من مشكلة لاجئين يعدّون بعشرات الآلاف، يوجد الآن ما بين 5 و6 ملايين لاجئ فلسطيني -كما كتب- ينتظرون عبثا العودة إلى إسرائيل، ويتم تمويل رعايتهم الصحية وتقديم الخدمات الاجتماعية والتعليم لهم من خلال الأونروا". وعليه، أصبحت الأونروا، بصفتها الوكالة التي أقيمت لحل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، هي الوكالة التي "تغذي هذه المشكلة".
بدءا من عام 2017 باشر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو -الذي تولى السلطة تباعا بعد اغتيال إسحاق رابين عام 1995- بالتحريض علنا على الأونروا عبر تبني دعوة هوروفيتش إلى وضع اللاجئين الفلسطينيين تحت مفوضية شؤون اللاجئين في الأمم المتحدة، وإنهاء وجود الأونروا، التي اعتبرها تعمل لصالح الفلسطينيين وتخلّد قضية اللاجئين.
وتشير دراسة نشرتها مؤسسة الدراسات الفلسطينية يوم 12 يونيو/تموز الماضي إلى أن نتنياهو رأى بعد وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض يوم 20 يناير/كانون الثاني 2017 أن الفرصة باتت مواتية كي يعبّر عن هذه الرغبة بصورة صريحة وعلى نطاق واسع. ففي اجتماع لحكومته عقد يوم 11 يونيو/حزيران من ذلك العام، طالب بتفكيك وكالة الأونروا ودمج مؤسساتها ضمن المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وأشار إلى أنه أبلغ السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة هيلي بضرورة العمل في هذا الاتجاه.
وتقول الدراسة ذاتها إن "سنة 2018 شهدت تصاعدا في حدة الحملة الإسرائيلية على الأونروا، زادته زخما آنذاك المواقف التي تبنتها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والتي صارت تدعو صراحة، بعد اعترافها بمدينة القدس "عاصمة" لدولة إسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها، إلى إنهاء عمل الأونروا، واتخذت في هذا السياق قرارا بوقف الدعم المالي الذي كانت تخصصه لها، والذي يقدّر بنحو 300 مليون دولار سنويا، تمهيدا لإضعاف مواردها المالية". وهو ما حصل يوم 31 أغسطس/آب من العام ذاته.
ولم يكن قرار قطع التمويل عن الأونروا مفاجئا لوسائل الإعلام الأميركية لأنه جاء بعدما كشفت مجلة "فورين بوليسي" في أغسطس/آب 2018 عن رسائل بريد إلكتروني مسربة، توضح كيف ضغط صهر ترامب ومبعوثه إلى الشرق الأوسط جاريد كوشنر على مسؤولين آخرين في الإدارة للانخراط في "جهد جدّي للتضييق على الأونروا".
وبحسب تقارير إعلامية أميركية، فإن قرار وقف التمويل اتخذ خلال اجتماع بين كوشنر ووزير الخارجية آنذاك مايك بومبيو، في حين أدّت السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة نيكي هيلي دورا مهما في تبنّي القرار.
كما أن القرار أريد منه -حسب تقدير موقف للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات- تصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين بالنظر إلى أنه أتى في سياق قرارات صبّت في الوجهة ذاتها، أهمها: اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل في ديسمبر/كانون الأول 2017، ثم نقل السفارة الأميركية إليها في مايو/أيار 2018 في إطار ما اصطلح على تسميتها بـ"صفقة القرن". وقد ترافق قرار وقف تمويل الأونروا مع قرار آخر اتخذته إدارة ترامب، يتمثّل في حجب مساعدات إغاثية وطبية وتنموية بقيمة 200 مليون دولار، كان يفترض صرفها هذا العام في الضفة الغربية وقطاع غزة.
وفي كلمة له أمام مجلس الأمن الدولي يوم 22 مايو/أيار 2019، ذهب مبعوث الرئيس دونالد ترامب للشرق الأوسط جيسون غرينبلات إلى اعتبار أن الأونروا تشكل "ضمادة"، وأن الوقت قد حان لكي تتسلم الدول المستضيفة للاجئين والمنظمات غير الحكومية الخدمات التي تقدمها الوكالة الدولية. وقال غرينبلات للمجلس إن "نموذج الأونروا خذل الشعب الفلسطيني".
وقعت الأونروا في ضائقة مالية جراء إجراءات ترامب بالنظر إلى أن المساهمة الأميركية (360 مليون دولار) في موازنة الأونروا تشكل ثلث وارداتها السنوية. ولم ينته هذا الكابوس إلا بإعلان فوز جو بايدن خصم ترامب اللدود في منصب الرئاسة في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، مما دفع المدير العام للأونروا الإيطالي فيليب لازاريني للمسارعة بالتصريح في تغريدة "تهانينا.. مبروك من الأونروا للرئيس المنتخب بايدن ونائبته كامالا هاريس، نأمل كثيرا العمل معا، واستئناف التقليد الأميركي القديم بالدعم".
بعد 4 أشهر من تولي بايدن السلطة، حصل ما توقعه لازاريني، حيث أمر الرئيس الأميركي الجديد باستئناف المساعدات التي حجبها سلفه عن الأونروا. وقال وزير الخارجية الأميركي المعين حديثا أنتوني بلينكن في 7 أبريل/نيسان 2021 إن "المساعدات الأميركية ستتضمن 75 مليون دولار للمساعدة في الاقتصاد والتنمية في غزة، 10 ملايين دولار لبرامج بناء السلام من خلال الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (يو إس آيد)، و150 مليون دولار من المساعدات الإنسانية لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)".
ساهم استئناف الدعم الأميركي في التخفيف من حدة أزمة الأونروا المالية، ولم يعد حديث الساعة، لكن التحريض الإسرائيلي على الوكالة لم يتوقف. ففي يناير/كانون الثاني من العام ذاته، نشر الباحثان بمركز بادين لدراسات سياسة الشرق الأوسط رون شلايفر ويهودا براشين مقالا في موقع "نيوز ون" العبري، قالا فيه إن "الأونروا تسعى من أجل إدامة مشكلة اللاجئين، التي طُلب منها حلها، وبدلا من ذلك، فقد تحولت الأونروا تدريجيا كي تصبح منظمة قصيرة المدى شبه حكومية لمساعدة التنمية البشرية، تقدم خدمات الرعاية الاجتماعية في مجالات الرعاية الطبية والمأوى والتعليم". وأشارا إلى أنه "مع مرور الوقت، تولت الأونروا المسؤوليات التي عادة ما تكون في أيدي المؤسسات الحكومية كالتعليم والصحة والرعاية الاجتماعية، وبدأت في إدارة مخيماتها للاجئين انطلاقا من سيادتها عليها، رغم أن معظم سكان هذه المخيمات من الفلسطينيين معروفون بنشاطهم السياسي، وصلاتهم بالمنظمات المسلحة، ومنظمة التحرير الفلسطينية وحركة (المقاومة الإسلامية) حماس".
وأشار الباحثان الإسرائيليان إلى أن "الشراكة قائمة بين الأونروا والمنظمات الفلسطينية منذ عقود، وانحيازها الواضح ضد إسرائيل، يزيدان الشكوك حول صورتها الذاتية بوصفها منظمة غير سياسية، وضرورة استمرار وجودها، وفي الواقع، شرعية وجودها بشكل عام، لأن الأونروا حوّلت قضية اللاجئين الفلسطينيين إلى مشروع يتم عبره ضخ مبالغ كبيرة من الأموال من الأنظمة العربية وتحفيز المؤيدين الغربيين".
خلال العامين السابقين على عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 لم تجد هذه المزاعم ما يسندها أو من يتبناها خارج إسرائيل، رغم تطابقها مع رواية اليمين الإسرائيلي الحاكم. ومع إعلان إسرائيل حالة الحرب يوم 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وشن جيشها هجوما انتقاميا غير مسبوق على قطاع غزة بدءا من اليوم نفسه، واصلت الأونروا بموظفيها البالغ عددهم 13 ألفا دورها كمنظمة إغاثة لكافة فلسطينيي القطاع من لاجئين ونازحين جدد. وتحولت باحات المستشفيات ومدارس الأونروا -التي تقدم الخدمات الطبية والإغاثية- إلى ملاذ للفارين من عنف القصف، الذي نظمت الولايات المتحدة الأميركية جسرا جويا لتعزيز الترسانة المستخدمة فيه.
وأفاد تقرير نشره موقع الأونروا الرسمي في نهاية يناير/كانون الثاني 2024 بأن "ما يبلغ 1.9 مليون نازح (باتوا) يقيمون إما في 154 ملجأ تابعا للأونروا وإما بالقرب من هذه الملاجئ". علما بأن الحصانة الدولية الافتراضية هي التي دفعت سكان القطاع للجوء إلى مراكز الأونروا بعد تلقيهم أوامر إخلاء من جيش الاحتلال الإسرائيلي تمهيدا لقصف مخيماتهم أو أحيائهم أو اجتياحها.
ورغم ذلك، كان النازحون واللاجئون إلى مراكز الأونروا يتعرضون للاستهداف والقتل بواسطة المسيرات أو القصف من البر والبحر والجو. ويفيد موقع الأونروا بأن مبانيها والأشخاص الموجودين بداخلها تعرضوا إلى 278 حادثة منذ بدء الحرب، بعضها شهد حوادث متعددة أثرت على المواقع نفسها، بما في ذلك ما لا يقل عن 28 حادثة استخدام عسكري و/أو تدخل في منشآت الأونروا. وقد تأثرت 147 منشأة مختلفة تابعة للأونروا جراء تلك الحوادث".
وقدرت تقارير الأونروا عدد القتلى من بين النازحين الذين لاذوا بمقراتها طلبا للنجاة منذ بدء الحرب بـ376، وعدد الجرحى بـ1365. أما عدد موظفي الأونروا الذين قتلوا حتى 31 يناير/كانون الثاني الماضي فبلغ 152، في حين يواصل 3 آلاف آخرين عملهم، "وهم يعدون العمود الفقري لعمليات الإغاثة الإنسانية" في القطاع.
ومع دخول الحرب شهرها الخامس، وعزل الجيش الإسرائيلي لمحافظات شمال القطاع عن جنوبه، ظلت الأونروا هي عنوان الجهد الإغاثي لسكان القطاع المنكوب. ويقول بيان منشور في الأول من فبراير/شباط الحالي إنه تم "الوصول إلى ما مجموعه 354 ألفا و411 عائلة لغاية الآن". وقال توماس وايت مدير شؤون الأونروا في غزة ونائب منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في الأرض الفلسطينية المحتلة، في تصريح مسجل إن موظفي الأونروا، الذين أجبروا هم أنفسهم على الفرار من منازلهم، "استمروا في توفير الغذاء والخيام للنازحين الجدد من حولهم".
وفي الشمال حيث المجاعة تلوح في الأفق، لم تتمكن الأونروا من الوصول هناك إلا بشكل محدود للغاية منذ بدء الحرب. ووفقا لما قاله وايت، فقد "تلقت الأونروا تقارير تفيد بأن الناس في المنطقة يطحنون علف الطيور لصنع الدقيق". وأكد أن الوكالة تواصل "التنسيق مع الجيش الإسرائيلي لنتمكن من الذهاب إلى الشمال، إلا أن ذلك لم يتم السماح به إلى حد كبير". معقبا بالقول "عندما يسمح أخيرا لقوافلنا بالذهاب إلى المنطقة، يهرع الناس إلى الشاحنات للحصول على الطعام وغالبا ما يأكلونه على الفور".
لم تكن المجاعة الوشيكة في قطاع غزة تشغل بال صناع القرار الأمني الإسرائيلي أثناء تقليبهم السيناريوهات الممكنة لعرقلة دور الأونروا الإغاثي والإنساني خلال الحرب. فأعد جهاز الموساد -حسب مصادر متطابقة- تقريرا من 6 صفحات يتضمن اتهامات لـ12 موظفي الوكالة في غزة، بينهم مدرسون وسيدتان، بالمشاركة في هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وتم تسليمه إلى مسؤولي الأونروا أواسط يناير/كانون الثاني الماضي. وقال التقرير إن نحو 10% من أصل 13 ألف موظف في غزة مرتبطون بحركتي حماس والجهاد الإسلامي.
بالتزامن مع إصدار قضاة محكمة العدل الدولية حكما يأمر إسرائيل "بمنع الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين في غزة، وضمان توفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية"، كشف المفوض العام للأونروا فيليب لازاريني في بيان أن السلطات الإسرائيلية زودت الأونروا بمعلومات حول الضلوع المزعوم لعدد (دون تحديد) من موظفي الوكالة في الهجمات المروعة على غلاف غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. وتابع "لحماية قدرة الوكالة على تقديم المساعدة الإنسانية، اتخذت قرارا بإنهاء عقود هؤلاء الموظفين على الفور، وبدء تحقيق من أجل التوصل إلى الحقيقة دون تأخير". وأضاف البيان أن "أي مشاركة من أي موظف في الأونروا في أعمال إرهابية يعرضه للمساءلة بما في ذلك المحاكمة الجنائية".
جاء رد الفعل الفوري على قرارات محكمة لاهاي وتصريحات لازاريني من واشنطن. وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية ماثيو ميلر إن "الولايات المتحدة منزعجة للغاية من المزاعم القائلة بأن 12 موظفًا في الأونروا ربما تورطوا في الهجوم الإرهابي الذي شنته حماس يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي على إسرائيل". وذكر أن وزارة الخارجية أوقفت مؤقتًا التمويل الإضافي للأونروا. وقال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن من جهته إن الأدلة على تورط بعض موظفي الأونروا في هجوم 7 أكتوبر على إسرائيل "ذات مصداقية".
وسرعان ما التحقت دول غربية مهمة تباعا بالموقف الأميركي. ومن بين الدول الأولى التي أعلنت عن التخفيضات كانت المملكة المتحدة والولايات المتحدة وكندا وأستراليا وألمانيا وفنلندا وسويسرا وإيطاليا وهولندا والاتحاد الأوروبي. ثم حذت كل من اليابان ونيوزيلندا وفرنسا والنمسا وآيسلندا وأستونيا ورومانيا حذوها، حيث أعلنت عن تخفيضاتها الخاصة.
ولم يتردد خبراء دوليون في الرد على المواقف المستجدة حيال الأونروا، خصوصا بعد إعلان لازاريني أنّ "استمرار تعليق التمويل الدولي المخصّص للوكالة، والبالغ اليوم 440 مليون دولار أميركي، سيضطرها إلى إنهاء عملياتها بحلول نهاية فبراير/شباط الجاري في قطاع غزة والمنطقة ككلّ". وقال المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بالحق في الغذاء مايكل فخري "المجاعة كانت وشيكة، أما الآن فباتت أمرا لا مفر منه". ورأى يوهان صوفي، الذي سبق أن عمل مديرا للمكتب القانوني للأونروا في قطاع غزة، أن الوكالة "انتهجت دائما سياسة عدم التسامح مطلقا مع العنف والتحريض على الكراهية". وقال لوكالة الصحافة الفرنسية إن "فرض عقوبات على الأونروا التي بالكاد تحافظ على حياة جميع سكان غزة، بسبب المسؤولية المزعومة لعدد قليل من الموظفين، هو بمثابة عقاب جماعي لسكان غزة الذين يعيشون في ظروف إنسانية كارثية". أما رئيس المجلس النرويجي للاجئين يان إيغلاند فقال من جهته "أيها المانحون، لا تجوّعوا الأطفال بذنب عدد قليل من العاملين في مجال الإغاثة".
ورغم دعوتها للتحقيق في مزاعم إسرائيل حيال الموظفين الـ12، فإن النرويج التزمت موقفا متوازنا من مسألة تمويل الأونروا. إذ طالب وزير خارجيتها أسبن بارث أيدي الدول المانحة بالتفكير في "العواقب الأوسع" لوقف خدمات وكالة الأونروا، وأكد في مقالة نشرها بصحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية التزام بلاده بقوة بـ"مواصلة تمويل هذه الوكالة الحيوية، ودعم الشعب الفلسطيني". وحذت سويسرا وإسبانيا واليونان حذو النرويج، فأعلنت استمرارها في تقديم المساعدات لوكالة غوث اللاجئين.
أما الكاتبة سما حسن التي أجبرتها حرب غزة على تجرّع النزوح داخل وطنها، فلم تدوّن شأنها شأن مواطنها يوسف أبو النعاج أسماء النازحين، بل أرّخت في سلسلة مقالات وجدانية تفاصيل شقائهم في مراكز تجمعهم بين خان يونس ورفح جراء الجحيم المتواصل في غزة منذ خمسة أشهر.ووثقت في مقال بعنوان " سجل أنا نازح" عودتها للاستفادة من خدمات الأونروا الإغاثية، بعد عقود من استغنائها عنها.