د. رجائي المعشر
منذ ما عرف بالربيع العربي، غرقت الأمة العربية في حالة من التشرذم والانقسام والخلافات، من مذهبية وعرقية لم تشهد مثلها في تاريخها الحديث. وانفرد كل بلد عربي في بناء هويته العرقية التي رسخت هويات فرعية، بدلا من الهوية القومية الواحدة.
ابتعدت الدول العربية عن أفقها القومي لأسباب موضوعية، أهمها إخفاق التيار القومي عسكريا وسياسياً واقتصادياً: عسكريا في نكسة حرب حزيران عام 1967، واقتصادياً عندما ارتبط التيار القومي بالاشتراكية التي طبقت على نحو غير علمي وغير واقعي، فتراجعت اقتصاديات الدول التي تبنتها، أما سياسيا؛ فتمثل الإخفاق بفشل التيار القومي في وضع أنموذج ديمقراطي، بل لجأت قياداته لإقامة أنظمة دكتاتورية لم تراع إلى حد كبير، قناعات الشعوب العربية بأهمية الحرية والعدالة والمساواة وحقوق الانسان.
ومع هذا الفشل، كان البديل الوحيد المتاح، إعطاء الأولوية للدين السياسي على حساب العقيدة القومية، وزاد من قناعة المواطنين العرب بهذا التوجه، موقف ايران المعلن من القضية الفلسطينية وتحرير القدس ومقارعتها لأميركا في بدايات انشاء النظام الإسلامي للحكم في إيران، منذ بدايته حتى اليوم.
ومع وضع الدين السياسي في واجهة حياتنا السياسية، كان من الطبيعي بروز تيارات فكرية مختلفة، فظهرت تيارات الوسطية والنضالية والجهادية والداعشية – الداعشية بمعنى اختطاف الاسلام لغايات سياسية، مستخدمين في ذلك أعمالاً لا انسانية ولا أخلاقية، بعيدة كل البعد عن الاسلام وقيمه.
لا شك أن الصهيونية، ومعها الغرب الطامع بثروات الشرق العربي، استغلت أعمال الفئات الداعشية المتطرفة، لرسم صورة للاسلام والمسلمين في إعلامها، وكأنه دين القتل والارهاب، ورسخ الإعلام الغربي وقادته هذه الصورة في أذهان مواطنيهم، الأمر الذي خلق ما أصبح يسمى بظاهرة "الإسلاموفوبيا".
وإذ لم تستطع التيارات الفكرية المعتدلة والوسطية، أن تقدم أنموذجا ناجحا لتحقيق التقدم والازدهار الذي يلبي طموحات مواطنيها، أصبحت معايير النجاح والإنجاز عند ابناء الشعب العربي المحبط، أعمالا سلبية تثير العواطف، ولكنها وخيمة العواقب، وصارت شعوبنا ترى في بعض العمليات التي راح ضحيتها مدنيون، على أنها عمليات تصب في حق مقاومة الاحتلال بكل السبل المتاحة، واختلطت الأمور على العالم الغربي وهو يشاهد مواقفنا من هذه الأحداث، ليؤكد لنفسه أننا فعلا نؤيد الإرهاب وقتل الأبرياء، ونسي أو تناسى أن جوهر المشكلة هو تحرير أرض عربية من محتل، أكان المحتل إسرائيلياً في فلسطين أو أميركياً في العراق أو تركياً في الشمال السوري، وتناسى الغرب أيضاً أن مقاومة الاحتلال حق وواجب مقدس، فصار الغرب يركز على الحدث ونتائجه المباشرة، وليس على ما وراء الحدث واسبابه الحقيقية، وبقي الأمر كذلك حتى يومنا هذا.
ولعل أخطر نتائج الاعتماد على الدين السياسي بدلا من البعد القومي العربي، هو أننا فتحنا الباب على مصراعيه للذين يعملون على تفتيت الدول العربية، لا بل يفتتون الأمة العربية برمتها، لتطوير صراع مذهبي بين أبناء الدولة الواحدة، والدول العربية بعضها مع بعض.
من هنا، بدأت تظهر العصبيات الدينية المذهبية: الشيعية والسنية والدرزية والمسيحية وهكذا. واستغل أعداء الأمة العربية التاريخيين هذا التعصب، لتحقيق مصالحهم الخاصة. إيران على سبيل المثال، وخلال ولاية الفقيه وتأكيدها أن حقوق الشيعة كانت مسلوبة أو منقوصة في العراق ولبنان واليمن، تمكنت من بناء ذراع عسكرية لها من العرب من أتباع المذهب الشيعي، فاستطاعت خلاله بناء منطقة نفوذ لها في كل من سورية والعراق ولبنان، واستخدمت مقاومة الاحتلال وتحرير القدس غطاءً لتغطية حقيقة نواياها في الشرق الأوسط.
أخذت إسرائيل تشجع التوجه الديني الهادف إلى قيام دول على أسس مذهبية في المنطقة، وبذلك، تبرر هدفها المعلن بقيام دولتها اليهودية في فلسطين. بالاضافة إلى اضعاف الدول العربية. وبتهويل الخطر الإيراني الشيعي، وجدت بعض دول الخليج في التطبيع مع إسرائيل، ضمانة لمواجهة هذا الخطر، فأقامت بذلك علاقات خاصة مع إسرائيل، تستفيد الأخيرة منها لتقوية اقتصادها وقدراتها العسكرية خلال التقدم التكنولوجي الذي ركزت عليه في التعليم والاقتصاد، وأصبحت لديها القدرة على تزويد منطقة نفوذها بمنتجاتها العسكرية والتكنولوجية.
أما في لبنان، ونتيجة الخوف من النفوذ الشيعي المتمثل في حزب الله وتنامي قوته التسليحية، بدأ الحديث عن قيام كونفدرالية تشمل كانتونات مسيحية وسنية ودرزية وشيعية. أي أنه في التركيز على البعد المذهبي، نكون قد فسحنا المجال أمام الدول الأقوى عسكريا وماليا في المنطقة، لكي تستخدم هذه الدول العربية ذات المذاهب المختلفة لتحقيق غاياتها، وأصبح الانتماء المذهبي عند أبناء البلد العربي الواحد والوطن العربي بأكمله، أقوى من الانتماء القومي، أو حتى الانتماء القطري، وصارت هوية العربي في القطر الواحد، مذهبية تفرق ولا توحد.
نحن اليوم بأشد الحاجة إلى مشروع نهضوي عربي، يعيد اللحمة بين أبناء القطر العربي الواحد والوطن العربي بأكمله، فالوطن العربي محل أطماع المستعمرين، والساعين لبناء مناطق نفوذ لهم، وذلك لأسباب عدة، أولها موقعه الجغرافي، ويظهر أهمية ذلك في مشاريع الصين: طريق الحرير الجديد الذي يعرف أحيانا باسم مشروع الحزام، والطريق والذي لا يكتمل دون وجود دول الشرق العربي ضمنه، وأميركا: مشروع طريق الهند، وهو أيضا لا يكتمل بدون مشاركة الدول العربية فيه.
والسبب الثاني، هو ثروات الشرق الأوسط النفطية والغاز الطبيعي، وغيرها من المعادن والموارد الطبيعية. فالسيطرة على الثروات الطبيعية، هي سبب ما نشاهده اليوم من صراعات محلية في دول أفريقيا مثل السودان والنيجر وغيرهما. وهدف هذه الصراعات الممولة من جهات أجنبية، السيطرة في النيجر مثلا على اليورانيوم، وفي السودان على الأراضي الزراعية الشاسعة التي تستطيع تغطية نقص الإنتاج الزراعي نتيجة الحرب الأوكرانية، وتساعد على تنوع مصادر التزود بالمواد الغذائية والموارد الطبيعية غير المستثمرة في أقاليم السودان المختلفة، بخاصة في دارفور.
قبل أكثر من مائة عام، قامت الثورة العربية الكبرى بهدف تحقيق طموحات العرب باقامة المملكة العربية الكبرى: ثورة قومية ودينية في آن، بهدف أن تعيد للعرب مكانتهم بين دول العالم. ثورة تسعى لحرية العرب ووحدتهم والعدالة الاجتماعية والمساواة بين أبناء الوطن الواحد، ثورة قادها الهاشميون أحفاد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأجهض الغرب قيام المملكة العربية الكبرى من خلال اتفاقية سايس بيكو ووعد بلفور المشؤوم. ووقف قادة الثورة العربية ضد هذه الاتفاقيات، ورفضوا قيام الدولة اليهودية في فلسطين، فدفعوا ثمن مواقفهم هذه بدمائهم وحياتهم.
نحن في الأردن، ورثة الثورة العربية الكبرى وحملة رايتها ومبادئها وقيمها، ومن واجبنا أن نبقي المشروع النهضوي العربي حياً في قلوبنا وضمائرنا. وهذا يفسر مواقف الأردن المبدئية تجاه قضايا العرب من مواقف المغفور له الملك الحسين، الذي كان على الدوام يسعى إلى حل الخلافات العربية في إطارها العربي، دون افساح المجال للتدخل الأجنبي فيها، إلى مواقفنا اليوم تجاه القضية الفلسطينية ومبادرات جلالة الملك عبدالله الثاني المستمرة في بناء التضامن العربي، وبناء الشراكات الاستراتيجية بين الدول العربية، كما هو الحال في الشراكة الأردنية المصرية العراقية، ودعم الأردن المستمر لمؤسسات العمل العربي المشترك والالتزام بمقرراتها.
في الهجوم الإسرائيلي الغاشم على غزة، كان لجلالة الملك ولقيادته الحكيمة، الفضل في بلورة موقف عربي موحد، جوهره الوقف الفوري لاطلاق النار وفتح الممرات الآمنة، لايصال المساعدات لأهلنا العزل في غزة، وايجاد حل سلمي للقضية الفلسطينية، على أساس منح الشعب الفلسطيني حقه في تقرير مصيره، والعيش بأمان في دولته المستقلة على حدود الرابع من حزيران (يونيو) لعام سبعة وستين وعاصمتها القدس الشريف.
في خمسينيات القرن الماضي، جاءت تقارير المؤسسات الدولية لترسم صورة متشائمة عن قدرة الأردن، محدود الموارد المائية والطبيعية، على تحقيق النمو والازدهار لمواطنيه، فجاء جواب الأردن بتبني الشعار الذي أطلقه جلالة المغفور له الحسين المعظم "الإنسان أغلى ما نملك"، وجرى التركيز على التعليم ومحو الأمية وفتح المدارس وتوفير التعليم المجاني في جميع أنحاء المملكة ولجميع المواطنين، وايصال خدمات المياه والكهرباء والاتصال والصحة إلى جميع المواطنين في أماكن وجودهم. فنما الأردن، وأثبت أن الانسان الأردني قادر على تعويض النقص في موارد الأردن الطبيعية.
ونحن اليوم، بحاجة إلى القيام بالعمل الجاد لبناء الانسان الأردني، ليكون انساناً منتجاً فخورا بعروبته، ويتمتع بأخلاق دينه وقيمه، ملتزماً بمبادئ الدولة الأردنية في الحرية والوحدة والمساواة والعدالة الاجتماعية، انساناً يحترم قيم العمل ويفخر بمساهمته في بناء وطنه، ولا يتوانى عن خدمة وطنه في كل مجال متاح له. انسان بعرف تاريخ وطنه ويعتز بانتمائة إليه، ويشعر بأنه يساهم في صنع هذا التاريخ. وهنا يُطرح السؤال: هل يقوم نظامنا التربوي بذلك؟
طرح جلالة الملك مشروعاً وطنياً نهضوياً في التنمية السياسية والاقتصاد وتطوير الموارد البشرية وإصلاح الإدارة العامة. نتفق جميعنا مع الأهداف وقد نختلف على بعض التفاصيل، وهذا أمر صحي وضروري ولكن لا يجوز أن يحول هذا الاختلاف دون العمل الجاد، لتحقيق هذا المشروع النهضوي.
يحتاج بناء الانسان الأردني العربي، القادر على مواجهة متطلبات العصر، إلى جهد كبير في تطوير التعليم، ولا يمكن أن يجري ذلك من دون إعادة العمل على دور المعلمين الذي يهدف إلى تدريبهم قبل التحاقهم بعملهم، وتقديم دورات تدريبية لهم في عملهم، لترتبط ترقية المعلم بإنجاز التدريب المطلوب.
وكذلك اعادة النظر بالمناهج، إذ أن المهارات الواجب توافرها في الانسان، لم تعد تتمثل بالقدرة على الحفظ بل بالقدرة على التعامل مع المعلومة والاستفادة منها.
وأخيراً، يجب أن تُمكِّن مدارسنا الطلبة من معرفة تاريخ وطنهم ورجالاته ومواقفهم في الأحداث المختلفة، وبناء عقيدة أردنية عربية في ضمائرهم، أساسها قيم الدين ومبادئ الثورة العربية الكبرى في الوحدة والحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية.
اليوم، وبعد أن استكمل الأردن تحديث منظومة القوانين السياسية وتأسيس الأحزاب الوطنية، تمهيداً للوصول إلى حكومات برامجية، فإن المطلوب من المثقفين والحزبيين والنشطاء والمواطنين، إجراء نقاشات موضوعية ومبادرات فعّالة لوضع برامج سياسية واقتصادية وثقافية وطنية، قابلة للتطبيق، قادرة على معالجة التحديات التي تواجه الأردن في هذه المرحلة من عمره المديد.
* وزير أسبق