محمد خرّوب
مرة أخرى يخرج مفوض الاتحاد الأوروبي للأمن والخارجية الإسباني (الكاتالوني/جوزيب بوريل) على العالم, بتصريحات تفوح منها رائحة الغطرسة والتذاكي كحال متواصلة من «الإنكار» يعيشيها أحفاد المُستعمِرين القُدامى, الذين «طوّروا» النظريات الاستعمارية القديمة باستعمار جديد ومُختلف, لم تعد فيه حاجة إلى إبقاء جنود الغزو والاحتلال على أراضي الدول المُستهدفَة, لأسباب جيوسياسية أم خصوصاً لمواصلة نهب ثرواتها وفتح أسواقها للمنتجات الغربية.
إذ باتوا يكتفون بدعم نُخب سياسية أو عسكرية أو أمنية للوصول إلى الحُكم, خاصة أولئك الذين لم تنقطع علاقاتهم (إقرأ خدماتهم) مع المُستعمِر القديم, عبر إسناد هذه المهمة إلى سفارة البلد المُستعمِر, ناهيك عمّا يمكن لعملاء الاستخبارات الإستعمارية أن تنهض به وتحديداً الحؤول دون سقوط النظام, الذي أقاموه وجاؤوا به إلى السلطة إن بانتخابات مُزوّرة, أم في أغلب الأحيان عبر ثورة مُلونة ترفع شعارات منظمات المجتمع المدني NGO,s, التي تُواصل تلقّي «التبرعات» من حكومات الغرب ومؤسساتها «المُستقلة", على نحو بات تُشكل «حكومات» ظل?في البلدان ذات الأوضاع غير المستقرة.
ما علينا..
صاحب المقولة الشهيرة التي أثارت ردود فعل غاضبة, ما اضطر صاحبها للاعتذار عنها عندما قال في 13 تشرين الأول الماضي, أن (أوروبا «المُتميزة» هي «حديقة»، والعالم من حولها «غابة»), زاعماً في اعتذاره أن تصريحاته أُخرجت من سياقها وأُسيء فهمها.. صرّح في مقابلة مع صحيفة «الغارديان» البريطانية الأربعاء الماضي (22 الجاري): أن الاتحاد الأوروبي بقِيَ «حيواناً عاشباً وسط الحيوانات المُفترسة», ولكنه - أضاف بوريل - اضطر إلى «الإستيقاظ من سباته» بسبب النزاع في أوكرانيا.
لم يتوقّف صاحبنا المولود في «إقليم» إسباني يُواظب شعبه المُطالبة بالاستقلال والإنفصال عن إسبانيا (وشمال كاتالونيا عن فرنسا والبلدان الأخرى الناطقة بالكاتالونية), لأسباب سياسية وأخرى عِرقية وثالثة اجتماعية واقتصادية, وهذا ليس موضوعنا. إذ واصلَ بوريل القول للصحيفة البريطانية: نحن حيوانات عاشِبة في عالم من الحيوانات آكلة اللحوم وهذا – أضاف شارحاً - عالم سياسات القوة، ولكننا ما زلنا نتذكّر أنه من خلال التجارة وتعزيز سيادة القانون يمكننا التأثير على العالم.. لا يزال - إستطردَ - يتعيّن علينا نشر سيادة القانون، و?كننا - استدركَ - يجب ان نُدرك أيضاً أن هناك بعض القادة الذين يجب التعامل معهم بشكل مُختلف».
مزاعم كهذه تستدعي المناقشة بعد تفكيكها وانتزاع ما تستبطنه, وليس التوقّف عن الرطانة الاستعمارية المعروفة التي تخلط السمّ بالدسم, للإيحاء بأن دول الغرب «المُتنوِّر تسعى لبسط العدالة وسيادة القانون في العالم خاصة بعد انتهاء الحرب الباردة. فيما هي ازدادت وحشية وعدوانية وجشعاً, تحت طائلة الغزو وفرض العقوبات والحصار ومقاطعة الدول «المارقة», الرافضة الخضوع للهيمنة الغربية أوروبية كانت أم خصوصاً أميركية.
يقول بوريل: إن الحيوان الأوروبي «العاشِب» يعيش في عالم من الحيوانات «آكلة اللحوم», وأحسب أنه كان يتعين على مَن قابله أن يدعوه لتُسمية الأشياء بأسمائها وإعطاء أمثلة على هذه الدول؟.. عندها - في ما أجزِم - سيتلعثم بوريل, وان كان سيُسارع إلى اتهام روسيا والصين وايران وفنزويلا وسوريا وكوريا الشمالية, ناهيك عن بعض الدول الإفريقية التي تمرّدت على الهيمنة الاستعمارية الغربية وخصوصاً الفرنسية.
نأتي إلى ما جاء عليه, وأنه من خلال «التجارة» وتعزيز سيادة القانون «يُمكننا التأثير على العالم». يكاد لا يختلف إثنان على تهافت هذا التوصيف «النظري», الذي لا يجد له سنداً غربياً أوروبياً أو أميركياً على أرض الواقع. فالتجارة التي يتحدث عنها هي باتّجاه واحد، حيث بقية دول العالم بالنسبة للمعسكر الغربي مُجرد أسواق لمنتجاته، فيما المواد الخام وبخاصة البترول والثروات المعدنية الخام هي ما يستورده المعسكر الغربي. علماً أن الشركات المُنتجة لهذه المواد هي غربية في الأساس واحتكارية, تستفيد من بروتوكولات منظمة التجارة ا?عالمية التي «لا» تلتزمها الدول والشركات الغربية إلا إذا كانت في صالحها، وتدير لها الظهر إذا ما تعارضت مع تلك المصالح, أو أسهمت في تخفيض أرباحها الفلكية. حتى في حال تضرر «مناخ» الكوكب، وهي يافطة جديدة يحتكرها المعسكر الغربي لخدمة أهدافه الجيوسياسية, بهدف تحميل المسؤولية للدول الأخرى الصاعدة منها وتلك التي في قاع مؤشر التنمية, سواء بالنسبة للصين وحتى لسيرلانكا والنيجر.
تبقى مسألة «لافتة» أشار إليها بوريل, بقوله: يجب أن نُدرك أيضاً، أن هناك «بعض القادة» الذين يجب التعامل معهم بشكل مُختلف, ما يعني إقرار المسؤول الأوروبي بأن «الواقع» يفرض عليهم التعامل مع هؤلاء, سواء المُنتخب منهم أم غير المُنتخب، وبالتالي يُبرر لنفسه التعامل مع أنظمة إستبدادية لأن قادتها يخدمون المصالح الغربية. وليس مع أنظمة ترفض الهيمنة الأوروبية والأميركية. وبالتالي يصرِف الغرب النظر عن «النُخب» الأولى وتبرير إرتكاباتها, فيما يُسارع المُستعمِرون الجُدد لمناصبة «الصِنف» الثاني العِداء, عبر شن الحروب وفرض ?لعقوبات والحصار وتشويه السمعة والنبذ.
kharroub@jpf.com.jo