أوشكت ثلاثون عامًا أن تنقضي على اتفاق "أوسلو"، وملحقه الاقتصادي في "باريس" المبرم بين منظمة التحرير والاحتلال الإسرائيلي، لكن ما ترتب على ذلك الاتفاق من نتائج ومخرجات على مدار السنوات السابقة لم يكن مثلما يأمل الشعب الفلسطيني. فالآمال المعقودة كانت أن يفتح الاتفاق الأبواب أمام اقتصاد فلسطيني حر ومزدهر، واستثمار كبير تأسيسًا لدولة فلسطينية، لكن تبين أن الاقتصاد الفلسطيني ظل محاصرًا في سجن إسرائيلي، يعاني ضعف المؤشرات الاقتصادية، وعجزًا في الميزان التجاري. بل تعدى ذلك إلى هيمنة المنتجات الإسرائيلية على السوق الفلسطيني، وتحكم الاحتلال بالحدود والمنافذ وقتما يريد، إلى جانب تغييب استثمارات عربية ودولية في قطاعات إنتاجية مختلفة، هكذا لخص مراقبون اقتصاديون تقييمهم للاتفاق. ووُقّع اتفاق أوسلو في 13 سبتمبر/ أيلول 1993 في واشنطن، وهو اتفاق سياسي، وملحق باريس الذي وُقّع في 28 أبريل/ نيسان 1994 في باريس، يعد جزءًا من اتفاق أوسلو ويرتكز على الجوانب الاقتصادية.
في هذا الصدد يتحدث الاختصاصي الاقتصادي د. عبد الفتاح أبو شكر عن أسباب هشاشة الاقتصاد الفلسطيني بفعل الاتفاقية، مبينا أنها تتعلق بتنصل إسرائيلي من بنود الاتفاق وفشل السلطة في إدارة اقتصادها. وقال أبو شكر لصحيفة "فلسطين": كان الاحتلال يدرك قبل الاتفاق أنه لن يقدم الكثير من الحقوق الاقتصادية للشعب الفلسطيني، وبالفعل وجدنا أنه مع مرور السنوات واندلاع الانتفاضة الثانية أغلق المنافذ في وجه الأفراد والصادرات والواردات، وقصف المنشآت الاقتصادية، ومنع العمال من العمل في الداخل المحتل، فضعف الاقتصاد وارتفعت مؤشرات الفقر والبطالة. وأضاف أن التضييق الإسرائيلي على الاقتصاد الفلسطيني وصل إلى أبعد من ذلك في استخدامه مجموعة من الوسائل، كتجميد أموال المقاصة وقرصنتها، والضغط على الجهات الممولة لتقليص وتوقيف تمويلها. وعن فشل السلطة في إدارة اقتصادها، حمّلها جزءًا كبيرا من المسؤولية؛ لأنها ظلت تعتمد على المساعدات الدولية في الإنفاق، وأغفلت الجانب التنموي، حتى ظلت اليوم رهينة المساعدات والقرصنة الإسرائيلية، كما أن توزيع الموازنة العامة ركز على القطاع الأمني على حساب قطاعات مهمة مثل الزراعة والصناعة والصحة والتعليم.
ويتناول ملحق باريس العديد من القضايا الاقتصادية والمالية بين السلطة والاحتلال، بما في ذلك الجوانب المتعلقة بالتجارة والاستثمار والضرائب والجمارك وغيرها. في حين أكد الاختصاصي الاقتصادي د. أسامة نوفل أن اتفاق أوسلو وملحقه الاقتصادي تسببا في زيادة تبعية الاقتصاد الفلسطيني للإسرائيلي، حيث تراجعت طاقة الإنتاج المحلي واضطر الاقتصاد إلى الاعتماد بشكل كبير على الواردات الخارجية. وأشار نوفل في حديثه لـ"فلسطين" إلى أن التلكؤ الإسرائيلي في تطبيق الاتفاق كاملاً ورفض التعديلات المقترحة، أثرا سلبيًا في القدرة على بناء اقتصاد فلسطيني مستقل، مبيناً أن الاحتلال يفرض شروطًا صارمة على العلاقات الاقتصادية الفلسطينية التي يجب أن تقام مع دول العالم الخارجي حيث يرفض الدول التي لا تقيم علاقات تجارية معه. وتناول نوفل تدهور قطاع الإنتاج المحلي في فلسطين بسبب الاتفاق، مما أدى إلى تصاعد التبعية وصعوبة تحقيق مكاسب اقتصادية مستدامة، منبهاً في الوقت نفسه إلى أن مناخ الاستثمار تراجع نتيجة الظروف الاقتصادية الصعبة، والقلق الذي يعتري المستثمرين، وخشيتهم من ارتفاع درجة المخاطرة. وأكد أهمية إيجاد حلول شاملة لهذه التحديات، من أجل تعزيز استقلالية وازدهار الاقتصاد الفلسطيني، وتمكينه من تسديد ديونه المتراكمة. تجدر الإشارة إلى أن السلطة سبق أن طالبت بتعديل (14) بندًا من بروتوكول باريس الاقتصادي، لكن الاحتلال قابل ذلك بالرفض، وهذه المطالب تمحورت حول إنشاء مناطق جمركية تخص الجانب الفلسطيني للتقليل من الاعتماد على الاحتلال في إيرادات المقاصة، ومد خط مباشر في نقل البترول ومشتقاته من الاحتلال للسلطة لتوفير أموال النقل.
من جانبه أكد الاختصاصي الاقتصادي د. هيثم دراغمة استمرار مراوغة الاحتلال في منح الاستقلال الاقتصادي للفلسطينيين، إذ إنه يرفض التزام بنود الاتفاقيات الاقتصادية بشكل كامل، ولا يظهر استعداداً للنظر في تعديل بعض البنود التي تحتاج إلى تحسين لأنه يسعى لإبقاء الاقتصاد الفلسطيني تابعًا له، ومنقوص السيادة. وأكد دراغمة في حديثه لـ"فلسطين" أهمية ضغط المجتمع الدولي على الاحتلال لتحقيق التزامات تجاه الاتفاقيات الاقتصادية، وتمكين الفلسطينيين من بناء اقتصادهم، وتحقيق الاستقلال الاقتصادي الذي يستحقونه، وإصدار عملتهم الخاصة، والحرية التجارية، وعقد صفقات وتبادلات مع الدول التي يرون أنها مناسبة معه. تجدر الإشارة إلى أن اتفاقية باريس تتكون من 82 بندًا بهدف تنظيم العلاقات الاقتصادية عبر "اللجنة الاقتصادية المشتركة" غير أن هذه اللجنة لم تجتمع سوى مرات قليلة، قبل أن تجمدها سلطات الاحتلال كليا عقب اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000.