تعترف الأم لمياء باتباعها لقواعد التربية الصارمة مع ابنتها وأساليب العقاب النفسي على كل ما يصدر منها من أخطاء وهفوات، مبررة ذلك برغبتها في أن تكون ابنتها مؤدبة ومنضبطة الشخصية والسلوك.
وتبين، أنها تلجأ معها إلى استخدام أسلوب "الزجر والحرمان العاطفي"، عند صدور أي خطأ منها، إلى جانب منعها من اللعب من أقرانها أو ممارسة أي سلوك مفضل لديها، حتى تعود أدراجها وتتدراك الأمر بالندم والخضوع والاستسلام للسلوك المرغوب والصحيح في اعتقادها.
ومن جانبه يشعر هشام وهو أب لثلاثة أطفال، بوجود فجوة بينه وبين أبنائه الثلاثة، معللا ذلك بقوله: "الجميع يرونني في إطار الصلابة والجمود الذي أخفي وراءه الكثير من العواطف والمشاعر التي اعتدت على عدم إظهارها منذ صغري، فأحيانا أفقد سيطرتي على غضبي وأنهال على أبنائي بالشتائم والصراخ والتكسير"، الأمر الذي يضعني في صراع مع الشعور بالندم وجلد الذات في محاولة فاشلة للإصلاح".
آباء يبالغون في أساليب التأديب والعقاب في ردود أفعالهم السلبية في التربية، معتقدين تلك الطريقة أنها النهج الأمثل لتنشئة أبنائهم بنفوس صلبة وقوية وأقرب للمثالية. ومبررين تلك القسوة في ردود الفعل بتهذيب سلوك الأبناء وتغييره نحو الأفضل.
الاختصاصي النفسي، الدكتور موسى مطارنة، يعرف "التربية الانفعالية": بأنها التربية القائمة على الانفعال الحاد والغضب والصراخ والعنف.
وتعرف الإساءة الانفعالية في علم النفس: "بأنها نمط سلوكي حاد في طرق المعاملة، يرتكبه الآباء أو مقدمو الرعاية بحق الطفل، وينتج عنه أضرار كبيرة على النمو المعرفي وعلى الصعيد النفسي والاجتماعي".
وتتمثل في الاعتداء النفسي على الأبناء من خلال تعريضهم بصورة كبيرة للإهمال والتجاهل والتحكم العاطفي وإثارة الشعور بالخوف والذنب والتحقير، وبما في ذلك استخدام أساليب المقارنة والتهديد والإساءة اللفظية وغيرها.
بحسب خبراء لـ"الغد"، تلقي هذه الممارسات القائمة على الإساءة الانفعالية على شخصية وسلوك الأبناء، بظلالها، وسرعان ما تصنع منهم أفرادا بنفوس "هشة" وسريعة الاشتعال، وتعزز العنف.
مطارنة يرى، أن لهذه السلوكيات مردودا سلبيا على الأطفال والمراهقين، إذ تساهم في فقدان الشعور في الأمان وفقدان معاني الحوار الفعال. وهذا بدوره يؤدي إلى إشكاليات في الشخصية والسلوك لدى الأبناء. فضلا عن تثبيت سلوكيات الانفعال لديهم وترسيخ معتقد أن الحلول، لا تأتي إلا بهذه الطريقة الانفعالية التي اعتادوا عليها.
وربطت دراسات عديدة، بين تعرض الأطفال والمراهقين لإساءة المعاملة ومعاناتهم من الاضطرابات السلوكية وفقدان الثقة في النفس، وسرعة الاستثارة، إضافة إلى تعزيز العزلة والسلوك الاجتماعي الانسحابي لديهم.
ويبين، أن السلوك والشخصية هما نتاج عملية التفاعل الاجتماعي، وأن الإنسان يكتسب سلوكياته من بيئته، ومحيطه الذي نشأ فيه. إلى ذلك، يلفت، إلى أن اتباع الوالدين للنهج التربوي العنيف سببه غياب الوعي الاجتماعي، وأضرار ذلك مدمرة على الأبناء.
وفي السياق، تقول مريم (19 عاما): "إنها تخاف من تعرضها للإساءة اللفظية والإهانة إذا ما عبرت عن رأيها أمام عائلتها، خاصة عندما يتعارض مع ما يعتقدون أنه الصواب الذي لا يقبل النقاش، دفعها نحو الانطواء على ذاتها وتجنب الحوار مع أسرتها والمحيط".
مريم تقول: "إنها قررت البقاء داخل "قوقعتها" الخاصة كما وصفتها، كي تحمي نفسها من الشعور المؤلم الناتج عن التعرض لردود الفعل العنيفة التي تخشى مواجهتها كما كانت في طفولتها، حتى وإن كان ذلك على حساب كتم شعورها وقمع صوت عقلها".
وكون الأسرة هي المساحة الأولى الحاضنة للطفل، والتي يتكون فيها جزء كبير من المفاهيم وتتشكل الشخصية، يدعو مطارنة، إلى اتباع الأساليب الإيجابية الضابطة مع الأبناء، من خلال تهذيبهم بالممارسات السلوكية الواعية والمتناسبة مع الفئة العمرية.
ويوضح، "لا بد من اللجوء إلى أساليب الحزم التربوية في كثير من الأحيان، ولكن بعيدا عن العقاب البدني والعنف، ولا يعني الحزم الانفعال أو الصراخ، بل هو قرار قاطع ومكرر. وهناك العديد من الاستراتيجيات التربوية الحازمة القائمة على لغة الحوار وتعديل السلوك بشكل عملي ومنظم".
من ضمنها "الإطفاء بالسلوك" المتمثل في تجاهل السلوكيات غير المرغوبة من الطفل في البداية، ثم التدرج في الحلول المتبعة، من خلال التنبيه حول الموضوع، ثم إعطاء تحفيز لإظهار ردة الفعل المطلوبة، وفي بعض الحالات اتباع أسلوب الحرمان التحفيزي والعقاب لتوجيههم نحو عدم تكرار الخطأ والسلوك المرفوض. على سبيل المثال القول: "إذا كررت هذا الخطأ ستحرم من اللعب في الخارج أو لن تلعب على جهاز الكومبيوتر".
وفي التعامل مع المراهقين، ينصح المطارنة باتباع لغة الحوار ونقاش الأبناء بأفكارهم لتحقيق نتائج إيجابية، كونهم في مرحلة من الاستقلال الذاتي.
ويقول: "بالتأكيد المراهق لديه نتيجة لاستقلاليته ومتطلباته، والطفل لديه نتيجة لمحاولاته الدفاعية لتلبية احتياجاته".
ويلفت، إلى الحاجة إلى علاج تلك المواقف المسيئة وردود الفعل السلبية، بعد صدورها إلى حالة من التهذيب الانفعالي، لمعالجة الموقف بشكل صحيح من خلال الحوار مع الابن والحديث الواعي معه حول الموضوع. كما ويسهم ذلك في تخفيف وطأة الضغط والوقع النفسي الناتج عن الموقف.
ويلفت مطارنة، إلى ضرورة وقوف الشخص الانفعالي أمام الموقف للحظة ليعطي لنفسه الفرصة للتفكير في الحلول، والتأني في رد الفعل حتى لا يفقد سيطرته ويتصرف بطريقة غير لائقة وتضر الأبناء.
إضافة إلى ذلك، يأتي دور المختص النفسي والتربوي في مساعدة الآباء ومقدمي الرعاية على تفريغ شحنات الغضب وضبط ردود الفعل في العملية التربوية وتوجيهها نحو مسارها الصحيح، علاوة على دور المختص في اختيار النهج المناسب وتحديد السلوكيات التي تمثل "متطلبات نمائية" أو "متطلبات غير نمائية" بحسب المرحلة العمرية للطفل.
ومن جانبه يبين المستشار التربوي، الدكتور عايش النوايسة، أن المرتكز الأساسي للتحكم في سلوك الإنسان هو ضبط النفس وإدارة الذات، والتي شهدت تطورا كبيرا في العصر الحالي، حيث أصبح هناك مفهوما شاملا للإدارة الانفعالية والغضب، ولدينا اليوم نظريات متعددة متعلقة في نظام التعلم الاجتماعي والعاطفي.
ويكمل: "جزء كبير من تعاملنا مع المحيط الاجتماعي الذي نحن فيه، سواء أبناء في المنزل أو طلبة في المدارس، له تأثير وانعكاس كبير بالتأكيد، تحديدا فيما يتعلق في المواقف الناتجة عن الانفعال غير المنضبط والذي غالبا ما يكون مرتبطا بتصرفات آنية ومتسرعة وسلبية".
ولذا، فإن الأصل في التربية الأسرية والاجتماعية، أن تشمل تهذيب المنظومة الانفعالية وتقديم الدعم النفسي والاجتماعي الذي يحتاجه الأبناء. وتسيير السلوكيات والطرق والأدوات لبناء بيئة آمنة لهم.
وفي غضون ذلك، يحذر النوايسة من ردود الفعل الاستهزائية، والتوجيه باستخدام لغة النقد اللاذعة والأوامر، والتي تسفر عن توليد العنف وتكوين شخصية متطرفة تعاني صعوبة الاندماج مع الآخرين والمحيط، فضلا عن عدم تقبل الأطفال والمراهقين لها، خاصة في حال تكررت.
ويلفت النوايسة في ختام حديثه، إلى أن الحلول مرتبطة في مسار الأسرة والمؤسسات التعليمية والإعلامية على حد سواء، من خلال تقديم أسس التربية الإيجابية والمتوازنة وتقديم النصيحة. ويبقى أسلوب "جبر الخواطر" على حد تعبيره واحد من الأسرار الكبيرة جدا والقواعد الأساسية في عملية التعلم وإدارة الانفعال.