يعجز الكلام عن وصف ما تشعر به الحاجة خيرية بدر وهي تطوي السنة التاسعة عشرة على التوالي دون اثنيْن من أبنائها غيبتهما سجون الاحتلال الإسرائيلي عن ناظريها، لكنهما حاضران في قلبها ووجدانها وفي كل ركن من المنزل، تعيش مع ذكرياتهما وأحلامهما التي رسماها في كل مكان ولكن الاحتلال حال بينهما وبين تلك الأماني وأجّلها لسنواتٍ طوال.
كانت الحياة هادئة في بيت الحاجة خيرية التي ترمّلت وهي صغيرة في السن، وترك لها زوجها أربعة من الذكور وثلاث بنات. كافحت وتحدت كل الظروف الصعبة كي تربيهم علّهم يكونون لها سندًا ومعيلًا في كبرها، لكن الاحتلال باغتها بدهم بيتها وتفجير أبوابه ليعتقل ابنها "بهيج". تاريخ 27 يوليو يحمل للحاجة خيرية ذكرياتٍ مشوبة بالألم والقهر، ففي تلك الليلة من عام 2004م التي فجرّت فيها قوات الاحتلال أبواب منزلها وعاثت فيه فسادًا، تزامنت مع اقتحام منزل ابنها الآخر "باهر" في مدينة الرملة المحتلة.
وعندما تجلّى الصباح تبين للحاجة خيرية أن الاحتلال اعتقل ثلاثة من أبنائها، أحدهم اعتقله لعامين ثم أفرج عنه، أما "باهر" و"بهيج" فقد صدمها الحكم القاسي واللاإنساني الذي أوقع بحقهما حيث حكم على بهيج بالسجن المؤبد ثماني عشرة مرة، واثنتي عشرة مرة بحق "باهر". لم تستفِق الحاجة خيرية، حتى اللحظة، من صدمة الحكم الذي وقع على "بهيج"، وأخشى ما تخشاه ألا يسعفها العمر لرؤيتهما معًا في حضنها مجددًا. تقول: "انتزعوا بهيج من بين أطفاله الثلاثة التي كانت أصغرهم جمان تبلغ من العمر خمسة وثلاثين يومًا، أما أكبرهم إيمان فكانت تبلغ من العمر أربع سنوات فقط".
وتضيف بأسى: "كنا نعد العدة لزفاف باهر، نزين المنزل ونجهز الضيافة، لكن الاحتلال حوّل الفرح مأتمًا وأجّل فرحتنا به تسعة عشر عامًا حتى اللحظة، انقلب الفرح حزنًا، وساد الضيق القلوب خاصة بعد الحكم المرتفع الذي أوقعه بحقه أبنائي".
تعامل وحشي
وما يزيد قلق "بدر" على ابنيها أنها جرّبت الاعتقال في سجون الاحتلال، صحيح أنها لم تعتقل لفترة طويلة، فتقول: "مكثت تسعة أيام عايشتُ فيها تعامل الاحتلال الوحشي مع الأسرى من تقييد للأيدي والأرجل، وعزل انفرادي، وشبح وضغط نفسي، كل هذا وأنا امرأة، فما بالك كيف يتعاملون مع الشباب والرجال؟!".
ولا تستسيغ الحاجة خيرية طعمًا للحياة بعدما أقعدها المرض عن زيارة ابنيْها منذ قرابة أربع سنوات، فأصبحت تنتظر من الزيارة للأخرى علَّ الزائر يعود لها بأخبارٍ تطمئن قلبها عن ولديْها اللذيْن ربتهما مكابدةً وحرمها الاحتلال منهما وهما شابان.
ولم تعرف "بدر" للفرح طعمًا -بعد اعتقال ابنيْها- في رمضان أو الأعياد أو حتى زواج أبنائها الآخرين، "يكفي أنّ أبناء بهيج أصبحوا شبابًا وفي الجامعة وهو لم يفرح بهم، وتزوجت ابنته إيمان ولم يزفها لعريسها، هذا يؤلم قلبي كثيرًا، وكيف لي أن أفرح بحفل زفافٍ لديّ وزواج باهر مؤجل منذ تسعة عشرة عامًا".
وتتابع: "أي زينةٍ لفرح تذكرني بتلك الليلة التي نزع فيها الاحتلال الفرح من قلوبنا ونحن نحضر لفرح باهر (...) يطمئنني كل زائر لهما على وضعهما لكنني موقنةٌ بأن السجن همٌ عظيم يكفي أنهما محرومان منا ونحن محرومون منهما".
صورة متكررة
أما عمر الابن الوحيد للأسير "بهيج"، فيرى أن حياته لم تختلف عن حياة والده كثيرًا، "تربى والدي يتيمًا، فقد حُرم الأب في سنٍ مبكرة، وأنا كذلك حُرمت من أبي وأنا أبلغ العاميْن من عمري فقط، لا أتذكر شيئًا من حياتي معه". اقرأ أيضًا: 5 أسرى يدخلون أعوامًا جديدة بسجون الاحتلال ويضيف: "كما كابدت جدتي من قبل مشاق الحياة لتربية أبي وأعمامي فإن والدتي أيضًا حملت المسؤولية باكرًا وربتنا وعلمتنا أنا وشقيقتايْ حتى أصبح ثلاثتنا حاليًّا في المرحلة الجامعية، لم تكنْ الحياة سهلة بالنسبة لأطفالٍ حُرموا والدهم، لكننا فخورون به، وسببٌ أساسي في نجاحنا هو رغبتنا بأن ندخل السرور على قلبه حتى وهو بعيدٌ عنا".
وأكثر ما يُفرح قلب "عمر" هو فرحة والده بإنجازاته العلمية وتشجيعه له عندما يزوره، "يرغب والدي بأن نصل إلى أعلى الدرجات التعليمية، يوصينا دائماً بأمي وجدتي، يعرفُ كم تعبتا في الحياة بدونه وبدون عمي باهر". ورغم كل المشاق التي تعترض طريق عمر إلا أنه يتغلب عليها كلما تذكر ملامح الفرح وهي ترتسم على وجه والده كلما ذهبوا له وأخبروه بأخبارٍ سارة عنهم، "كما يحاول هو إخفاء الحزن في قلبه لما يعانيه من ظروف صعبة في اعتقاله، نخفي عنه نحن نار شوقنا له، ونحاول أن ننتقي له كل خبر يدخل السرور على نفسه ويرفع من عزيمته".