الأمان الذي شعر به بعض السوريين النازحين من مناطقهم من جراء الحرب لم يدم طويلاً، فقد عاد الزلزال بهم إلى نقطة الصفر بعدما ظنوا أنهم أعادوا بناء حياتهم. خسرت آلاف العائلات منازلها في شمال غربي سورية نتيجة الزلزالين المدمرين اللذين ضربا المنطقة، وعاشت هذه الأسر خلال الأشهر الماضية تجربة نزوح جديدة.
ترك شاكر العبدو، ابن ريف حماة (وسط)، بقايا منزله المدمر بسبب الزلزال الذي ضرب إدلب، ليستقر في مكان جديد أقل تضرراً، رغم أنه لم يكن يتوقع أن تتوالى نزوحات العائلة بعد التهجير الأخير من ريف حماة الشمالي نتيجة العمليات العسكرية للنظام السوري. حين انتهت العمليات العسكرية، اشترى بيتاً ليقيم فيه مع عائلته في مدينة سلقين بعيداً عن القصف، لكن الزلزال دمره.
يقول العبدو لـ "العربي الجديد" إن مشاعر غريبة انتابته بعد النزوح الجديد، إذ بقيت أمتعته وذكرياته وأحلامه في منزله المتهالك، والذي لا يستطيع الاقتراب منه لكونه مهددا بالانهيار في أي هزة ارتدادية.
رغم الألم، يعتبر نفسه محظوظاً لنجاة عائلته من الزلزال. ويقول: "كان المنزل وفياً، وتماسك حتى تمكنّا من مغادرته". لم تحدد عائلة العبدو وجهتها الجديدة، فالخيارات لم تعد واسعة، فتركيا التي تحتضن نحو ثلاثة ملايين سوري لم تعد خياراً، خصوصاً وأنها شهدت دماراً كبيراً من جراء الزلزال. عادت العائلة مجدداً إلى بيوت الإيجار، والعقود المؤقتة، والانتقال من مكان إلى آخر في محاولات للعثور على مكان يصلح للاستقرار، كما أن الأبناء سيضطرون إلى بدء حياة جديدة في المدارس التي سينتقلون إليها، والبحث عن أصدقاء جدد بعدما تركوا مدينة سلقين. يقول سامر (12 سنة): "لا أعرف إذا كنت سأعتاد حياتنا الجديدة. لكنني سأشتاق إلى مدرستي وأساتذتي وأصدقائي".
وحرم الدمار الذي خلفه الزلزال الكثير من النازحين من أغراضهم، إذ تركت العائلات كل ما تملك للهرب من المنازل المتأرجحة بفعل الزلزال، وهي التي لم تكن تملك الثير أصلاً بعد رحلة النزوح الأولى، وزاد من مرارة النزوح الأخير فقدان كثيرين أفراداً من عائلاتهم أو أصدقائهم تحت الأنقاض، لتبدأ رحلة النزوح الجديدة بدفن أحباءهم في المدن المنكوبة، والتي ربما لن يتمكنوا من زيارتها مجدداً.
يعاني النازح من دير الزور، أبو حمود، من مرارة النزوح الجديد، والبحث عن منزل بديل عن منزله في جنديرس، والذي تضرر بسبب الزلزال.
قول لـ "العربي الجديد": "في الزلزال الأول، سمعت صوت طقطقة أعمدة البناء، لكن المنزل لم يسقط، فحسمت قراري بالبقاء فيه خشية الغرق في دوامة النزوح من جديد. لكن الزلزال الثاني أجبرني على الخروج هائماً على وجهي بحثاً عن سلامتي وسلامة عائلتي. تمكنا من الخروج قبل أن ينهار البناء. نجت العائلة، لكن لم نتمكن من أخذ أي شيء، وعاد بنا الحال إلى وضع يشبه التهجير الأول، حين خرجنا بثيابنا فقط. وضعت عائلتي عند أحد الأقارب، وبدأت البحث عن منزل يناسب دخلي الشهري بعيداً عن مدينة جنديرس".
يتابع: "هذا التهجير لن يكون أقل وطأة من سابقه، فقد كنا نعيش حياة تشبه حياتنا في دير الزور. لكن كل شيء سيتغير، فمدينة جنديرس لم تعد قابلة للسكن، والزلزال خطف أرواحاً كثيرة من أقاربي، وشرد آخرين، وباتت العودة إلى ما كنا عليه قبل الزلزال مستحيلة". وكانت مأساة زوجته المهجرة من ريف حماة أكبر، فقد خسرت أهلها في الزلزال، في السابق، كانت ترغب بالبقاء في جنديرس، كون المدينة تجمعها بأهلها. لكن بعد وفاتهم، لم يعد هناك ما يربطها بالمدينة، وربما بات الخروج منها أكثر راحة لقلبها، إذ إن رؤية الدمار ستجدد أحزانها.
بدأت غالبية العائلات السورية المهجرة أو النازحة بسبب الحرب الرحلة بالسكن في الخيام، وتأقلم بعضها في المناطق الجديدة، وبعضهم أمّن بيوتاً بالإيجار لتجاوز أزمة السكن في الخيام. لكن جاء الزلزال ليدمر كل ما بنته تلك العائلات من أحلام واستقرار نسبي، لتعود مجدداً إلى سكن الخيام.
اضطر سعيد الحمصي إلى ترك منزله الذي دمره الزلزال في مدينة سرمدا، والعودة مجددا للسكن في خيمة داخل مخيم الكمونة، بعد أن كان يظن أنه لن يعود إلى حياة المخيم الذي تركه منذ سنوات.
يقول لـ"العربي الجديد": "عدنا إلى الخيمة مجدداً. كنت أظن أنني ودعت حياة الخيام للأبد بعدما اشتريت منزلاً في سرمدا، وجهزته بالشكل الذي يناسبني. كنت أظن أن حياتي تغيرت، وبدأت تحقيق بعض أحلامي في ظل عمل جيد، وبيت آمن للعائلة والأطفال، لم يكن يشغلني غير حلم العودة إلى حمص. لكن فجأة، وخلال دقائق معدودة، انهار كل شيء، وخرجت مع عائلتي بأعجوبة قبل انهيار البناء". يضيف: "كانت كل مخاوفنا محصورة في برميل متفجر أو صاروخ. لذلك، رغبت باقتناء منزل أرضي بعيداً عن مباني الطوابق المرتفعة. لم أظن للحظة أن الخطر سيدهمنا هذه المرة من تحت الأرض التي زلزلت منزلي، ودمرت أحلامي وحياتي من جديد". تخفي زوجته غصة كبيرة، لكنها تعود لتشكر ربها على سلامة العائلة. تقول إنها عاشت أياماً جميلة في هذا البيت، ورتبت مطبخها بالشكل الذي تحبه، وإنها كانت تبحث عن الأواني المميزة لتزين بها الرفوف، كما بنت علاقات جيدة مع الجيران، لكن فجأة تلاشى كل شيء، وتوفي بعض جيرانها، فيما توزع الباقون على مراكز الإيواء المؤقتة.