فتحت جريمة القتل في يافة الناصرة نقاشًا داخل المجتمع الإسرائيليّ حول مسؤوليّة الدّولة الإسرائيليّة في وقف الجريمة المنظّمة بين مواطنيها من فلسطينيّي 48، هذا النقاش ليس جديدًا إلّا أنّه اتّسم هذه المرّة بحدّةٍ في التصريحات، وإلقاء اللوم على أكثر من طرف، وانشغلت وسائل الإعلام الإسرائيليّة في الجريمة الّتي وقعت في الثامن من يونيو/حزيران الجاري، وراح ضحيّتها خمسة قتلى عرب، وأفردت لها مساحةً واسعةً من التغطيّة، واستنفرت القوى السياسيّة، بعد أنّ ضربت هذه الجريمة هيبة الدّولة ووظيفتها في إنفاذ القانون، واحتكار العنف في المخيلة الجمعيّة الإسرائيليّة.
تأتي الجريمة المروعة على وقع ارتفاعٍ غير مسبوقٍ في عدد جرائم القتل من هذا العام، الّتي وصلت حتّى الآن إلى قرابة 100 جريمةٍ في نصف عامٍ فقط، وهو ذات عدد جرائم القتل في عامٍ كاملٍ، وفقًا لمعدلات الجرائم في السّنوات السابقة، التي وصلت إلى أكثر من 1800 قتيل منذ عام 2000. قد يبدو الحديث عن الأرقام والسّنوات كلامًا جافًا أمام ما يمكن تخيله من ألمٍ لدى عائلات القتلى، ومن حالة الخوف المستمرّ بين الفلسطينيّين في الدّاخل، من أنّ يطاولهم رصاص الجريمة، الذي يدفعهم إلى التفكير في الهجرة، فجرائم القتل شبه يوميّةٍ، وحوادث العنف الأخرى؛ التي ينتج عنها جرحى، أو إطلاق رصاصٍ وحرق سياراتٍ وغيرها، يوميًّا، ولم تعد تُحصى أصلًا، وصارت جزءًا من الفضاء العام.
أرقام وسنوات
الحديث عن الأرقام يظل مهمًا، خصوصًا الحديث عن أرقام فكّ الشّرطة الإسرائيليّة لجرائم القتل في المجتمع العربيّ بالدّاخل، ومحاسبة المتهمين، الّتي تصل إلى أدنى مستوياتها. منذ مطلع العام الحالي، لم تقدّم الشّرطة لوائح اتهامٍ، وبناء قاعدة أدلّةٍ قويّةٍ سوى لـ 10% من مجمل جرائم القتل. الأرقام المنخفضة تطاول السّنوات السابقة أيضًا، وهي لا تغطي ثلث جرائم العقدين الأخيرين، الأمر الّذي يحفّز مجموعات الجريمة المنظّمة (المافيا) للاستمرّار في النّشاط والازدهار. يقارن الفلسطينيّون في الدّاخل نسبة جرائم القتل المرتفعة لديهم بستّة أو سبعة أضعاف مقارنةً مع الضّفّة الغربيّة، وقطاع غزّة، والدّول العربيّة. تترافق هذه الأرقام مع أرقام السّلاح المنتشر بين المواطنين العرب، الّتي تصل إلى قرابة 400 قطعة سلاحٍ، معظمها يعود أصلها إلى معسكرات الجيش الإسرائيليّ.
الحديث عن الأرقام يدفعنا إلى الحديث عن السّنوات، فهذا المشهد من الانفلات، ومن سيطرة عائلات الإجرام على عديد المصالح التجاريّة والصفقات والمناقصات والنفوذ والخاوة وصناعة ما يُسمى السّوق السّوداء، والاقتتال على كلّ ذلك فيما بين هذه العائلات، لم يكن موجودًا قبل عام 2000. قبل عام 2000 كان ذلك من اختصاص مجموعات الجريمة المنظّمة اليهوديّة، الّتي نجحت المؤسسة الإسرائيليّة في كبحها وتحجيمها كثيراً، ووضعت أبرز عناصرها في السجن، وتخلصت منها بعدما هُددت هيبة الدّولة بفقدان السيطرة، وفي وظيفتها في احتكار العنف.
الشاباك والعملاء
يأخذنا عام 2000 دومًا في المخيلة إلى التحام الفلسطينيّين في الدّاخل مع الانتفاضة الثّانية، بالخروج إلى الشارع في مظاهراتٍ ضخمةٍ واحتجاجاتٍ، وإلى قتل الشّرطة الإسرائيليّة 13 فلسطينيًا برصاص القناصة، وتأسيس مرحلةٍ جديدةٍ من العلاقة بين مواطني الدّاخل والمؤسسة الإسرائيليّة على أكثر من صعيد، كُتبَ عنها الكثير. لكن نستعيد من ذلك؛ وفي معرض الحديث عن الجريمة والعنف، تصريحات رئيس "الشاباك" السابق آفي ديختر، الّذي صرّح بعد يومين من تفجّر الهبّة في الدّاخل، وارتقاء شهداء "ستدفعون الثمن (عن المظاهرات) غاليًا. ما لكم أنتم والضّفّة والأقصى؟ سيأتي وقتٌ تكونون فيه عالقين بينكم وبين أنفسكم".
دلائل أخرى من ذلك العام مرتبطة مع نمو الجريمة المنظّمة، منا جَلب الشّاباك بعد عام 2000 عائلات عملائه من الضّفّة الغربيّة وقطاع غزّة، للسكن في الدّاخل الفلسطينيّ، مع منحهم تراخيص للسّلاح، استخدم قسمٌ منه لاحقًا في جرائم عنفٍ. ويحضر هنا؛ على ضوء النقاش الإسرائيليّ الدّاخليّ الجاريّ هذه الأيّام، وتبادل تهم المسؤوليّة، تصريحاتٌ تناقلتها وسائل إعلامٍ إسرائيليّةٍ عن مسؤولٍ كبيرٍ في جهاز الشّرطة، يقول فيها "البلطجيّون الّذين يقودون الجريمة المنظّمة في المجتمع العربيّ غالبيتهم عملاء الشاباك. في هذه الحالة أيدي الشّرطة مكبلةٌ. لا يمكن الاقتراب من هؤلاء العملاء الّذين يتمتعون بحصانةٍ".
بدوره، يرفض جهاز الشاباك الضلوع في تحقيقات جرائم القتل في المجتمع العربيّ، بعد أنّ تعالت الأصوات السياسيّة الإسرائيليّة لإشراكه، منها رئيس الحكومة الإسرائيليّة؛ بنيامين نتنياهو، معللًا رفضه لذلك بأنّ المسؤوليّة تقع على عاتق الشّرطة في القضايا المدنيّة الجنائيّة، مع العلم أنّ الشاباك حاضرٌ في المجتمع العربيّ منذ عقودٍ بأشكالٍ عديدةٍ، منها ملاحقة النشاط السياسيّ الوطنيّ، وفي تعيين مدراء المدارس، ومراقبة جهاز التعليم العربيّ وغيرها. لكن هناك جانبٌ آخرٌ لعدم رغبة الشاباك في الانخراط، هو تخوفه من انكشاف الأدوات الّتي يستخدمها ضدّ ما يسميه "الإرهاب"، في حال أٌجبر إلى إحالة المشتبه به للمحكمة.
الشّرطة والمعارضة
إلى جانب ذلك، تتخوف جهاتٌ إسرائيليّةٌ من إعطاء صلاحيات أكبر للشاباك في المجتمع، منها محامية الدّفاع العامّ القُطريّة الإسرائيليّة؛ عنات ميساد-كنعان، الّتي اعتبرت أنّ "تفويض الشاباك سيشكل حالة ندمٍ كبيرةٍ للأجيال المقبلة، وسيكون تأثيره عميقًا وأساسيًّا على طبيعة النظام الدّيمقراطيّ في إسرائيل" بحسب تعبيرها.
بموازاة نقاش إشراك جهاز الشاباك، يجري نقاشٌ داخليٌّ في جهاز الشّرطة الإسرائيليّة حول المسؤوليّة عن معالجة هذا الملف، إذ طالب ستّة مفتشون عامين سابقين للشّرطة، و42 ضابطٌ متقاعدٌ برتبة نقيبٍ رئيس الحكومة الإسرائيليّة؛ في أعقاب جريمة يافة الناصرة، بإقالة وزير الأمن القوميّ، إيتمار بن غفير، الّذي اتهموه بالتّسبّب "بانهيارٍ متوقعٍ للشّرطة الإسرائيليّة" معتبرين بن غفير جزءًا مركزيًّا من المشكلة. الأصوات الناقدة لبن غفير؛ الّذي توعد بضرب عناصر الجريمة المنظّمة لدى تعيّينه وزيرًا، ترى به وزيرًا غير مكترثًا بوقف شلال الدّم العربيّ، بسبب شخصه وآرائه، وأيضًا في ظلّ الانقسام الإسرائيليّ حول التغيّيرات في جهاز القضاء.
تهاجم المعارضة الإسرائيليّة الحكومة وأقطابها بسبب هذا الملف، ورُفعت لافتةٌ ضخمةٌ لضحايا جرائم قتل العرب، خلال المظاهرات الأسبوعيّة في تل أبيب ضدّ التغيّيرات في جهاز القضاء، محملين الحكومة المسؤوليّة، مع العلم أنّ قوى المعارضة السياسيّة الّتي كانت بالحكم قبل عام، لم تتمكن من مكافحة الجريمة، وظلّت أرقام الجرائم عاليّةً، رغم إقامة وحدة "سيف"، وهي وحدةٌ خاصةٌ لمكافحة الجريمة في المجتمع العربيّ، استقال رئيسها اللواء ناتان بوزنا الشّهر الحاليّ، في ظلّ خلافاته مع بن غفير والمفتش العام للشّرطة الإسرائيليّة يعقوب شبتاي.
جذور الجريمة
في مقابل الجدل والانشغال الإسرائيليّ الحاليّ بمكافحة الجريمة المنظّمة في المجتمع العربيّ، والساعي للتطهر الأخلاقيّ، والحفاظ على هيبة الدّولة، وتخوفًا من وصول الجرائم للمجتمع اليهوديّ، هناك تغييبٌ للطّبيعة العنصريّة المُمأسسة للدّولة الإسرائيليّة تجاه العرب على مدار عقودٍ، وتغييبٌ لأنماط العنف والجرائم، الّتي مارستها إسرائيل منذ أيّام الحكم العسكريّ، ولاحقًا بقوانينها التمييزيّة في كلّ شيءٍ لصالح اليهود، ومصادرتها للأرض، وتوزيع الموارد، وصولًا لتوجيه لوائح اتهامٍ بحق المئات من الشباب العرب، الّذين خرجوا في هبّة الكرامة، بأحكامٍ عاليّةٍ انتقاميّةٍ.
ينعكس هذا في تصريحاتٍ عديدةٍ اعتبرت العنف جزءًا من الثّقافة العربيّة، مثلما سُمع في تسجيلٍ صوتيٍ مسرّبٍ لمفتش الشّرطة العام؛ يعقوب شبتاي، خلال أحد اجتماعاته "لا يمكن فعل شيءٍ حيال ذلك، إنّهم يقتلون بعضهم، إنّها طبيعتهم، هذه هي عقليّة العرب". هذه الأفكار العنصريّة الاستعلائيّة تنعكس أيضًا على الإسرائيليّين أنفسهم، فبحسب استطلاعٍ للرأي؛ أجرته القناة الإسرائيليّة 13 أخيرًا، بينما قال 46% من المُستطلعين أنّ القيادة العربيّة تتحمل المسؤوليّة عن الجريمة في المجتمع العربيّ، حمّل 6% الشّرطة المسؤوليّة فقط.
نَمت الجريمة المنظّمة العربيّة في ظلّ الواقع الاستعماريّ الإسرائيليّ، وازدهرت خلال السّنوات الأخيرة كثيرًا، وخلقت سوقًا بالمليارات، يغسل أمواله في مصالحٍ تجاريّةٍ محليّةٍ في الدّاخل، وأيضًا في الخارج مثل تركيا والإمارات، وسُمح لانتشار السّلاح بين العرب انتشارًا كبيرًا، ما دام القتيل ليس يهوديًا في دولةٍ تدّعي امتلاك أكثر تكنولوجيّا الاستخبارات تطورًا وتصنّعها أيضًا، لكنها على ما يبدو تعرف إدارة وتصنيع تفكيك المجتمعات وأخذها نحو الهاوية، وربّما قد تبدأ بتصدير ذلك أيضًا.