لم يتضح بعد موعد الانتخابات المحلية المقبلة في تونس ولا أفق تنظيمها، بعد نحو 4 أشهر من حل المجالس البلدية، وسط حالة من الغموض والارتباك السياسي، وتواصل تأزم الوضع الاجتماعي والاقتصادي، ووسط انتقادات لمساعي الرئيس التونسي قيس سعيّد للقضاء على الحكم المحلي والإجهاز على تجربة اللامركزية المحلية.
وتخلّى سعيّد عن جميع البنود المؤسِسة للسلطة المحلية في دستور 2014 (11 فصلاً) وعوّضها بفصل وحيد في دستوره الجديد الذي صاغه بنفسه وعرضه على استفتاء 25 يوليو/تموز 2022، يحاكي دستور 1959 (دستور ما قبل الثورة)، والذي يقوم على مركزية السلطة ووضع البلديات تحت إشراف وزارة الداخلية والتنمية المحلية.
انتخابات بلا مواعيد
وانتخب التونسيون في العام 2018 قرابة 7300 مسؤول بلدي موزعين على 350 بلدية منتخبة في اقتراع عام وسري وتعددي بإشراف هيئة الانتخابات الدستورية المستقلة. واعتُبرت هذه الخطوة، على الرغم من عثرات التجربة، بداية تركيز أركان السلطة المحلية التي ينظمها دستور 2014 ومجلة الجماعات المحلية، التي وصفها الخبراء بـ"النقلة الثورية" من الدولة المركزية الراعية التي بناها الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، نحو الدولة اللامركزية الديمقراطية المبنية على الحكم المحلي والتدبير الحر وسلطة الجهات والمحليات المنتخبة مباشرة من الشعب.
وكان يُفترض أن تُنهي المجالس البلدية المنتخبة مدّتها (خمس سنوات) مع مطلع يونيو/حزيران الماضي، ولكن سعيّد استبق الأجل وعمد إلى حلها، عبر إصدار ثلاثة مراسيم في 9 مارس/آذار تتعلّق بالشأن المحلّي. ونصّت المراسيم الرئاسية التي صاغها سعيّد بمفرده، على تعديل القانون الانتخابي، وآخر على حل المجالس البلدية، وثالث على تنظيم انتخابات المجالس المحلية وتركيبة المجالس الجهوية ومجالس الأقاليم (من دون تحديد موعدها).
ويعيب خبراء الشأن الانتخابي ونشطاء المجتمع المدني ترك الانتخابات المحلية من دون مواعيد واضحة، وعدم تحديد أفق لسد الشغور في المراكز البلدية، علاوة على تحفظاتهم الشديدة على مراسيم تنظيم هذه الانتخابات وتركيبتها المستجدة.
ويستبعد مراقبون تنظيم انتخابات محلية هذا العام حتى بواسطة المراسيم التي وُضعت على المقاس، بسبب الصراعات الداخلية التي تعيشها الهيئة وموجة الإعفاءات داخلها، علاوة على غياب إرادة واضحة لدى السلطة لاستعجال تنظيمها.
وقال المتحدث باسم الهيئة العليا للانتخابات محمد التليلي المنصري، لـ"العربي الجديد"، إنّ "الهيئة تعمل حالياً على التحضير لانتخابات المجالس المحلية من خلال العمل الميداني والفني للتحديد الترابي للعمادات (تقسيم جديد للدوائر الانتخابية) الذي انتهى، وستصدر تباعاً القرارات الإدارية عن وزير الداخلية للمصادقة على الخرائط الإدارية للعمادات، إن شاء الله خلال هذا الأسبوع". وتابع: "نحن جاهزون للانتخابات وسيكون هناك تنسيق مع رئاسة الجمهورية حول الموعد وأمر دعوة الناخبين".
وحول ضرورة تعديل المرسوم الرئاسي وعرضه على مصادقة البرلمان، اعتبر المنصري أنه "لا موجب لمصادقة البرلمان على مرسوم تنظيم انتخابات المجالس المحلية ولا المرسوم الانتخابي".
وبشأن غياب النصاب القانوني في الهيئة بسبب الشغور في 3 مناصب من 7 أعضاء وعدم قدرة الهيئة على تنظيم الانتخابات المحلية، أوضح المنصري أنه "من الضروري سد الشغور، وسيكون ذلك إن شاء الله خلال هذا الأسبوع، كما وعد رئيس الجمهورية رئيس الهيئة عند اللقاء به، بتعيين عضو سابق وعضو عن سلك القضاء".
وتعد هذه الانتخابات غير مسبوقة في تونس، وستجرى لأول مرة في 2155 دائرة انتخابية، وهو رقم ضخم، مقارنة بالانتخابات البلدية التي جرت في 350 دائرة في 2018، ما يتطلب تكاليف مالية ومضاعفة استعدادات اللوجيستية والبشرية. (لم يصدر قانون الانتخابات المحلية ولكن تصريحات لمسؤولين أكدت تحديد الدوائر بـ2155).
القضاء على اللامركزية
من جهته، قال القيادي في جبهة الخلاص الوطني المعارضة، رئيس اللجنة الانتخابية في البرلمان السابق عن حركة النهضة، بدر الدين عبد الكافي، لـ"العربي الجديد"، إن سعيّد قضى على تجربة الحكم المحلي ومسار اللامركزية، بل إنه أجهض حلم تأسيس اللامركزية، بداية من خلال الاعتداء على إرادة الناخبين والمواطنين الذين صوّتوا للبلديات المنتخبة و7500 مستشار بلدي تم انتخابهم في اقتراع مباشر وحر وتعددي وديمقراطي، حيث تم حل البلديات وإزاحتهم بجرة قلم من دون بديل. وتابع: "كما اعتدى سعيّد على جهود ممثلي الشعب والمجتمع المدني والمجتمع السياسي والنخب والخبراء ومختلف الأطراف التي شاركت في صياغة ومناقشة ووضع مجلة الجماعات المحلية التي تم التداول فيها بطريقة تشاركية".
ورأى عبد الكافي أنه "لا أفق لإنجاز هذه الانتخابات ولا أمل فيها بهذه المراسيم والمقاس الذي وضعه سعيّد، وإذا ما تمت ستكون إعادة لسيناريو الانتخابات التشريعية المهزلة (جرت في ديسمبر/كانون الأول 2022) التي عرفت عزوفاً منقطع النظير ومقاطعة غير مسبوقة". وأشار إلى أن "السبيل لنجاح أي الانتخابات هو تنقية المناخ السياسي، بداية بإطلاق سراح المعتقلين وضمان تنافسية وتعددية حقيقية، واعتماد قانون انتخابي جامع وتشاركي، وتركيز هيئة انتخابات مستقلة ونزيهة قادرة على تنظيم انتخابات حرة وشفافة ونزيهة بكل حياد عن جميع الأطراف".
وأضاف عبد الكافي أن تداعيات القرارات الارتجالية بحل البلديات وإعفاء المسؤولين عادت بالضرر بشكل مباشر على المواطنين في مختلف محافظات البلاد، مشيراً باعتباره من أبناء محافظة صفاقس التي تعيش بلا مسؤولين محليين وجهويين وبلا محافظ منذ أشهر، إلى أن "المواطن يعاني ويلات ونتائج ذلك من خلال تعطّل التنمية المحلية والجهوية وغياب القرار للتدخّل السريع، ما زاد من عمق أزمة النفايات والطرقات وتعطل المشاريع".
من جهته، قال القيادي في حزب الاتحاد الشعبي الجمهوري محمد الجلاصي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن "الانتخابات المحلية المنتظرة بلا أفق واضح ولا مواعيد محددة وجدية"، مشيراً إلى أن "تنظيم انتخابات محلية في الجو السياسي الحالي المشحون والوضع الاقتصادي والاجتماعي المتأزم لن يكون لديها صدى عند المواطن، وستشهد عزوفاً محققاً على غرار ما عرفته الانتخابات التشريعية".
وبيّن الجلاصي أن "السلطة الحالية أنهت تجربة الحكم المحلي والتدبير الحر واللامركزية التي نصّ عليها دستور 2014 في باب بأكمله، ومجلة الجماعات المحلية"، مضيفاً "على الرغم من عدم تحقق ما جاء في المجلة على أرض الواقع فإن هناك مبادئ كانت قادرة على تحسين وضع المواطن وخصوصاً في ما يتعلق بالسلطة اللامحورية والانتخابات الجهوية".
وأفاد الجلاصي أن "المجالس المحلية، إن تم انتخابها، لن تبتعد عن صورة البرلمان محدود الصلاحيات ونوابه غير القادرين على القيام بدورهم، وبالتالي فإن المجالس المحلية ستكون رهينة مركز السلطة ولن تكون قادرة على حل مشاكل المواطنين الحقيقية".
أما المحلل السياسي نور الدين الغليوفي، فبيّن في حديث لـ"العربي الجديد" أن "الرئيس أصاب السلطة المحلية في مقتل وأفرغها من محتواها وسحب منها الصلاحيات التي اكتسبتها بعد الثورة في دستور 2014 وفي مجلة الجماعات المحلية، وأعادها بذلك إلى سلطة المركز والتسلسل العمودي في انتظار التعليمات والتراخيص والقرارات".
ولفت إلى أن "ثورة 2011 نادت بتحرير الإرادة الشعبية ودفع التنمية المحلية وإعادة الحكم إلى الشعب، وتجسد ذلك في انتخاب ممثلي الشعب في الجهات والمحليات وفي دستور وقوانين تؤسس للامركزية القرار والتدبير الحر والحكم المحلي وديمقراطية القرب". وأضاف أن "النموذج الذي يبشر به اليوم بعيد عن إعادة الإرادة للقاعدة وللشعب، بل إنه بناء يزيد من تركيز السلطة لدى المركز، وهو واضح من خلال تفكيك السلطات وإلغاء صلاحياتها وتحويل المؤسسات الدستورية والمنتخبة إلى وظائف وموظفين لدى السلطة المركزية".
واعتبر أن "تأخّر الدعوة إلى الانتخابات يفسَّر بالخشية من صناديق الاقتراع ومن التخلي عن السلطة، وزد عليه هاجس ضمان النتائج مسبقاً من خلال تفكيك منظومة الديمقراطية وإبعاد المنافسين وتمهيد الطريق للموالين".