سهم محمد العبادي
من كرم الله تعالى أن كتب لي زيارة فلسطين مرات عديدة ضمن وفود رسمية وإجراء لقاءات أردنية فلسطينية ، وكانت جنين مقري شبه الدائم في الزيارة والمبيت، ودخلت بيوت أهلها وبيننا من العيش والملح والوفاء وصلة الدم والدين والمحبة .
عندما توجهت للمرة الأولى لزيارة جنين التي كان والدي رحمه الله يحدثني عنها خلال خدمته العسكرية لعدة سنوات هناك ، كنت وأنا متجها من دير شرف باتجاه جنين حاملا شوق المحب لأهله، الذين لم أرهم بحياتي، لكنهم كانوا أهلي من محبة والدي رحمه الله لهم ومن محبتهم له، وكان لقائي بهم كمن عادت له الروح وكأنني أعرفهم جميعا أو أنني تركتهم منذ لحظات وعدت لهم، ولم أشعر للحظة أنهم ليس مني أوأنني ليس منهم ، فأنا ابن كل عائلة منهم.
عندما تنطلق من مثلث دير شرف باتجاه جنين، ستجد على يمينك الناقورة ثم سبسطية وسيلة الظهر، وبعدها جبع ثم تأتي عن يسارك عجة والمنصورة، وتدخل إلى عرابة ثم يعبد واعرف عرانة وصندله والجلمة وأطلال جلبوع وبرطعة، وتجولت في شوارع جنين ودواوينها وحضرت افراحهم ، وتناولت طعامهم كرما وجودا، وأعرف كل مكان قاتل فيه جنود جيشنا العربي الأردني العظيم ، واعرف أضرحة الشهداء في يعبد واليامون والكفير ومثلث الشهداء ، وحتى مقبرة شهداء الجيش العراقي البطل.
واعرف والدة بطل سجن جلبوع الحاجة أم محمود العارضة، وزرتها في منزلها في عرابة ودخلت بيت مختارها وأهلها وزيتونها، وأعرف مرج ابن عامر وحتى "حواكير" الدخان .
في جنين لا تشعر إلا أنك ابن لهذا التراب الذي يقف عليه رجال ما بدلوا تبديلا، ولا يساومون على فلسطين وأرضها مهما كانت العقبات والمغريات ، فهم أهل هذه الأرض وأصحابها .
في جنين تشعر أن العروبة وتاريخ الأمة مازال بخير، وتشعر أن كرامة هذه الأمة أمانة في أعناق أهالي جنين، ومهما بلغت قوة الاحتلال فلديهم عقيدة أن فلسطين هي لهم الأرض للعيش والموت لها ولأجلها.
في جنين يزف الشهيد بمراسم الفرح والنصر، مراسم زفة الشهيد للجنة، فتجد كل أهالي جنين وكأنهم رجل واحد وكل أمهاتهم واحدة، ففرحهم واحد ومصابهم واحد أيضا .
الثمانينية أم الشهداء والأسرى التي ذهبت لأرفع من معنوياتها لاستشهاد أبنائها و أسر آخرين، اجابتني أنها تتمنى أن تتزوج وتنجب أبناء، لأن فلسطين "بدها يمه من يدافع عنها ويحررها"، فكانت هي من رفعت معنوياتي وكأنني كنت بحاجة لهذه الكمية من المعنوية .
في جنين وبين رجالها الكبار بالسن والقدر ، سمعتهم يتحدثون أن إحدى العائلات "صارلهم" فترة لم يقدموا شهيد ، الله أكبر، يتسابقون على الشهادة في جنين .
الاحتلال بكل إمكانياته العسكرية المتطورة لم ينجح بأن يدخل مخيم جنين الذي لا تزيد مساحته عن واحد كم مربع وخرجوا مدحورين وخرج أهل مخيم جنين منصورين ، هم يتسابقون على الحياة وأهل جنين يتسابقون الى الموت لأجل جنين وكل فلسطين.
من يعرف جنين وأهلها وعشائرها وصلابة رجالها وكرامتهم، يعي جيدا أن جنين بوابة النصر والتحرير مهما طال ليل الاحتلال .
الله يصبحكم ويمسيكم بكل خير أهلي في جنين، فهنا بالأردن كل قلوبنا تنبض بكم وندعوا لكم ومثلما كان الآباء والأجداد معكم فنحن أيضا معكم حتى النصر .
وأن النصر قادم مهما طال الزمن.