سهم محمد العبادي
مساء الإثنين الماضي عادت الروح الطاهرة إلى بارئها راضية مرضية، لينتقل النائب يسار الخصاونة إلى جنات الله تعالى وسط تسليم الجميع بأمر الله فلا اعتراض على ذلك.
تعود علاقتي مع أبي أكاد- رحمه الله- لسنوات طويلة، عرفته فيها أخا محبا ودودا وصاحب شخصية وحضور بهي، غني بالفكر والثقافة والمعرفة، لا يغيب عن أي مناسبة لأبناء الوطن أينما كانت، فكما كان يقول لي إن الأردن جميعها بالنسبة له كما النعيمة وبني عبيد عائلة واحدة.
عدته في المستشفى عدة مرات، وصادف وجوده مع وجودنا في إحدى المراحل في نفس الطابق، كنا نتسامر ونتناقش في كثير من الملفات، فكان الراحل مدرسة نتعلم منها، صاحب فكر نير وعقل راجح، يجمع لا يفرق.
في إحدى المرات سألته أن يرتاح بعد أن أنهى جرعة الكيماوي لأنها متعبة على الجسد، فكان جوابه أن لا ألم يعادل عنده ألم فقدانه لأبنائه الذي قضوا إثر حادث سير قبل سنوات، وكان محتسب صابر داعيا لأبنائه البقية بطول العمر وأن يكونوا مثلما أرادهم مؤمنون بربهم محبين لوطنهم وأهلهم من الأردنيين، ولم يكن إلا مبتسما ابتسامة الراضي بقضاء الله وقدرة.
خلال وجوده بالمستشفى لا يتوقف رنين هاتفه ولم يعتذر من أحد بالقول إنه في المستشفى، بل كان يردد للجميع تؤمر، تكرم، ولا يهمك، وفي إحدى المرات خلال خضوعه لجرعة الكيماوي كان هنالك جاهه إصلاح ذات بين لأحد أبناء النعيمة، فطلب من طاقم التمريض أن يتم إيقاف الجرعة مؤقتا بحيث يذهب للقيام بواجب الإصلاح وبعدها سيعود لغرفته في المستشفى لاستكمال الجرعة، وهو ما حصل بشهادة طاقم التمريض الذين حاولوا منعه من الذهاب، لكنه أصر كونه من قام بإجراءات الصلح، وخاف أن غاب أن تفشل الأمور، وغير ذلك الكثير من المشاهدات وكأنما نذر هذا الرجل نفسه- رحمه الله- لخدمة الناس وقضاء حوائجهم.
خلال الأيام الأخيرة من عمره الذي قضاه في عمل البر والتقوى كنت على مدار اللحظة أطمئن على وضعه الصحي، وكنت على يقين أن الأمور لم تعد مطمئنة، لكن الرجاء والثقة بالله لا تنقطع ولا نقنط منها، حتى بلغت أن أبا أكاد أنهى رسالته الحافلة بالبر والتقوىوالخير في هذه الدنيا وأنه أصبح ضيفا لله تعالى وقد أسلم الروح، ورغم التسليم بقضاء الله وقدرة لكن مرارة الفقد عظيمة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أوصى أبا أكاد- رحمه الله- أن يدفن بجانب قبور أبنائه الثلاثة في النعيمة وأن يصلى عليه أول صلاة بعد وفاته ويدفن بعد أن يصلي عليه في مسجد النعيمة الكبير ويصلي عليه صديقه الدكتور فكري، وما أعظمها من وصية فيها كل العبر والمعاني.
في الطريق إلى إربد من عمان، كانت المسافة كأنها لحظة فلم نفكر بالطريق ومشقته بل كان تفكيرنا بهذا الرجل الذي رافق أرواحنا طيلة عمره، فكان الأخ الناصح والقريب لنا، وبعد أن وصلنا إلى المسجد الكبير وجدنا جموع غفيرة في الشارع والمسجد والصمت مطبق رغم العدد الكبير، وكأن لكل واحد هناك حكاية له مع أبي أكاد، وما أن وصلت الجنازة حتى صلينا العشاء ومن ثم صلاة الجنازة وما شد انتباهي أن أطفالا لا تتجاوز أعمارهم العشر سنوات كانوا بجانبي يدعون بصوت مرتفع "يا رب ترحم عمي يسار"، فما الذي كان بينه وبينهم؟.
بعد ذلك انطلقت الجنازة كسرعة البرق وأنا أراقب المشهد مذهولا، واجتازت ما بين المنازل والزحام الذي تجاوز الآلاف من المحبين المفجوعين برحيل أخيهم، حتى وصلت إلى مثواها الأخير، وكان مشاهداتي أن لا أحد يتكلم مع الآخر والكل في صمت حزين ودمعة احتبست في عيونهم، مثلما سمعت نساء وشاهدتها في ممر ما بين المنازل يلوحن بأيديهن "مع السلامة يا أبا أكاد".
وما بين ارتفاع صوت التكبير والتهليل والدعاء وري جثمانه الطاهر الثرى، وأنا أعيد لنفسي سؤالا، ما كل هذا الحب والتقدير من هذه الألوف لأبي أكاد؟ رجالا ونساء وأطفالا، لم نستطع الجلوس بعد السلام وعدنا إلى عمان موقنين بقدر الله، وطول طريق العودة أصابنا الصمت ونحن نردد "عليك رحمة الله يا أبا أكاد والبركة بخلفك الصالح وسنبقى لهم كما كنت لنا"، وجدي على الزينين صاروا توالي، واستودعناك الرحمن يا صاحبي، الفاتحة.