مع شروق شمس السادس من يونيو/حزيران 1967 انعكس ظل طائرة عراقية ضخمة على بعض مباني مدينة نتاليا شمالي الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهدر صوتها القاصف مثيرا الفزع، فشخصت أعين المارين إلى السماء، ثم ظهرت قاذفة القنابل "توبوليف تي يو 16"، وألقت 4 قنابل ثقيلة من طراز "إف إيه بي 500" (FAB500) فأحدثت دمارا كبيرا وأجرت دورة كاملة للعودة، قبل أن تقتنصها نيران مضادات إسرائيلية.
لم يصدق الإسرائيليون ما يحصل، بدّدت هذه الضربة التي نفذها سلاح الجو العراقي، حالة النشوة الممزوجة بالشماتة التي سادت في أعقاب أخبار الساعات الماضية والتي أفادت بتدمير أكثر من 75% من القوات الجوية العربية، شملت المطارات ووسائط الدفاع الجوي ومنظومات الرادار.
بدأت إسرائيل حرب 1967 في الساعة 7:45 صباح الخامس من يونيو/حزيران، ردا على ما زعمت أنه تحرك لقوات مصرية وسورية لمهاجمتها، بضربة جوية استباقية استهدفت كافة المطارات العربية بالدول المجاورة، وحملت العملية اسم (Mokad) أو "البؤرة"، وشاركت بالضربة الأولى 188 طائرة في 3 موجات متعاقبة، بينما بقيت 12 طائرة فقط لحماية أجواء إسرائيل.
صدمة الجيوش والشعوب
كان يوما شاقا وقاسيا على الجيوش والجماهير العربية، التي كانت تنتظر نصرا حاسما على إسرائيل منساقة بالعواطف وتماهيا مع ما كان يبث من دعايات مبالغ فيها.
دمرت إسرائيل 452 طائرة عربية في 3 أنساق هجومية (معظمها كان رابضا في المطارات)، وأخرجت عمليا القوات الجوية المصرية والأردنية والسورية من العمليات خلال ساعات، وتم تدمير 18 مطارا مصريا كليا أو جزئيا (المدرج ومبنى القيادة والتحكم).
أدت الموجتان الأولى والثانية من الضربة الجوية إلى تدمير 338 طائرة مصرية من مختلف الأنواع و61 طائرة سورية، وخُصصت الموجة الثالثة لقصف قاعدتي الحسين والمفرق والأزرق بالأردن، حيث دُمرت 29 طائرة أردنية ثم قاعدة الوليد الجوية (الرطبة) بالعراق، إذ تم تدمير 23 طائرة عراقية، بينما فقدت إسرائيل 19 طائرة.
وعمليا، حصلت إسرائيل على تفوق جوي شامل، وباتت الأجواء العربية بعد الضربة الأولى مكشوفة ومسرح العمليات البرية في كل من مصر وسوريا والأردن عاريا ومهيأ لاختراقات عسكرية غير منتظرة في غياب الطيران الاعتراضي ووسائط الدفاع الجوي، وأدى ذلك لاحقا إلى ما عرف بالنكسة، واستطاعت إسرائيل ميدانيا أن تحتل شبه جزيرة سيناء المصرية وهضبة الجولان السورية وقطاع غزة والضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية في 6 أيام.
وكانت الحرب بمدتها وظروفها ونتائجها الوخيمة؛ تماما ما خططت له إسرائيل وأرادته ونفذته، ولم يكن العرب مستعدين واقعيا لسيناريو مماثل بأوهام القوة أو بأوهام الوحدة، رغم وجود قيادة عربية عسكرية مشتركة.
وتمثل الهدف الرئيسي والإستراتيجي للحرب وفق الوثائق الإسرائيلية، في شن معركة عسكرية خاطفة وكاسحة -لأن إسرائيل لا تحتمل الحروب الطويلة- تؤدي لزرع الهزيمة النفسية وكسر إرادة المقاومة بشكل نهائي، فالأسلحة يمكن أن تعوض، لكن إرادة القتال هي المحدد النهائي لنتيجة أي حرب.
قبس في ظلام النكسة
في الساعات الأولى من الحرب بقيت القواعد العراقية بعيدة عن الغارات الإسرائيلية التي ركزت جهدها الجوي الأساسي على الجبهة المصرية ثم السورية والأردنية (كانت هناك قطعات برية عراقية تحارب على الجبهة الأردنية)، ولم يكن هناك أي رادع جوي للطائرات الإسرائيلية، التي بدأت توغلها البري في ظروف مأساوية للجيوش العربية خاصة في شبه جزيرة سيناء.
صدرت أوامر القيادة العراقية في الساعة 11 صباحا بتنفيذ ضربة جوية أولى ضد مطار "كفار سين" شمال تل أبيب، حيث أقلعت 5 طائرات هوكر هنتر من قاعدة الوليد بقيادة النقيب الطيار عادل سليمان ونفذت مهمتها بتدمير برج السيطرة و3 طائرات نقل (معظم المقاتلات كانت تنفذ مهام قتالية) بينها واحدة كانت تنقل عددا كبيرا من المظليين. وعادت الطائرات إلى قواعدها وفق ما ذكر اللواء الركن علاء الدين حسين مكي خماس في كتابه "دور العراق في حرب 1967.. تاريخ وذكريات" الصادر عن "دار الأكاديميون" للنشر والتوزيع في عمّان.
وكُلّف تشكيل ثان من 3 طائرات هوكر هنتر بقيادة الملازم أول الطيار نجدت النقيب بقصف مطار تل أبيب، لكن ذلك لم يكن مؤثرا، بسبب كثافة المضادات الإسرائيلية بعد غياب عنصر المفاجأة واضطرار الطيارين للمناورة وقصف أهداف بديلة. وأدى نشاط الطائرات العراقية وكذلك الأردنية فوق إسرائيل إلى إعادة توجيه سلاح الجو الإسرائيلي نحو القواعد العراقية.
وكانت مجموعة من الطائرات الأردنية وعدد من الطيارين الذين أثبتوا مهارة كبيرة، في قصف أهداف إسرائيلية، بينهم الطيار البنغالي سيف الله الأعظم الذي كان يعمل مستشارا معارا لسلاح الجو الملكي الأردني وأسقط 4 طائرات إسرائيلية خلال العدوان، قد انتقلوا على قاعدة الوليد الجوية، وسعت إسرائيل إلى استهداف هذه القاعدة والطيارين الأردنيين والعراقيين.
وفي الساعة الثالثة والربع من ظهر الخامس من يونيو/حزيران، قصفت 3 قاذفات إسرائيلية من طراز "فوتور" (Vautour) و5 مقاتلات "ميراج 3" قاعدة الوليد العراقية المعروفة بـ"إتش 3" (H3) والواقعة في محافظة الأنبار، ودمرت 11 طائرة عراقية. وتمثل الهدف الأبرز بتدمير القاذفات الإستراتيجية العراقية (السوفياتية الصنع) من طراز "توبوليف تي يو 16- بادجر" (Tupolev Tu16- Badger)، لكن بعضها كان رابضا بقاعدة الحبانية (نحو 70 كيلومترا غرب بغداد وبعيدا عن مدى الطائرات الإسرائيلية)، في حين كانت اثنتان خارج الخدمة، و4 تجري غارات في العمق الإسرائيلي، ودمرت واحدة فقط في هذا الهجوم الإسرائيلي.
بمقاييس تلك الأيام كانت قاذفة "توبوليف تو 16 بادجر" حصنا طائرا، وطائرة ردع من الطراز الأول، وقد حصلت عليها العراق عام 1962 بعد نحو 3 سنوات من دخولها الخدمة بالجيش السوفياتي، ويبلغ مداها 7200 كيلومتر، ويمكنها الطيران بسرعة تصل إلى 1050 كيلومترا في الساعة وهي قادرة على حمل أسلحة نووية، لكنها بالمقابل تعد طائرة شديدة التعقيد والثقل وتتطلب طاقما مدربا تدريبا عاليا من 6 أفراد ومقاتلات مرافقة وحراسة.
كانت إسرائيل قد تمكنت من تدمير أو إتلاف معظم طائرات توبوليف 16 المصرية وهي رابضة بمطاراتها، وحيّدت أيضا القاذفات التي حصلت عليها سوريا، بينما بقيت 5 طائرات عراقية سليمة، فقررت القيادة العراقية رد الضربة الإسرائيلية في عمق العدو رغم صعوبة المهمة.
تفاصيل ملحمة منسية
في صباح السادس من يونيو/حزيران أقلعت 4 قاذفات "توبوليف تي يو 16" تابعة للسرب العاشر من قاعدة الحبانية الجوية بحمولة 9 أطنان من القنابل لكل منهما لقصف قاعدة "رمات ديفيد" جنوب شرق حيفا، والتي تعد واحدة من أهم 3 قواعد جوية إسرائيلية، ولأسباب تقنية عادت قاذفتان بدون تنفيذ المهام الموكلة إليها.
وتمكنت القاذفة الثالثة من تنفيذ مهمة قصف القاعدة وأحدثت فيها دمارا كبيرا، كما تؤكد الروايات العراقية، بينما تقلل السردية الإسرائيلية من هذه الرواية مشيرة إلى أن القنابل سقطت على منشأة عسكرية إسرائيلية على بعد 10 كيلومترات جنوب شرق العفولة (جنوب مدينة الناصرة)، وقد ورد ذلك في كتاب "أجنحة العراق" المجلد الأول: القوات الجوية العراقية 1931-1970" (WINGS OF IRAQ VOLUME 1) لمؤلفَيه "ميلوس سيبوس وتوم كوبر" (Tom Cooper- Milos Sipos).
وبعد أن ظلت إحداثيات القاعدة وأجرت مناورة وحركة التفاف واسعة وخطيرة، تعرضت القاذفة الرابعة التي كان يقودها اللواء الطيار حسين كاكا حسين لنيران مضادات أرضية ثم صاروخ من مقاتلة اعتراضية ثم انفجر خزان الوقود، لكن طياريها سطّروا رغم ذلك واحدة من أهم الملاحم القتالية، كانت من النقاط التي أضاءت ظلام النكسة.
يسرد تقرير في صحيفة "كالكاليست" الإسرائيلية تفاصيل العملية، التي أطلقت عليها الدوائر الأميركية والإسرائيلية اسم "البرق" كالتالي: "في اليوم الثاني من الحرب، شوهد ظل كبير قادم من سفوح جبال الأردن نحو جبال شمال الضفة الغربية. كانت الساعة السادسة والنصف صباحا، وأمكن لسكان مدينة طولكرم سماع دوي المحرك جيدا. شاهد من استيقظ باكرا طائرة غريبة وضخمة تسارع نحو إسرائيل، كانت قاذفة قنابل من طراز "توبوليف تي يو 16" قادمة من العراق وعلى متنها حمولة فتاكة: 6 قنابل تزن كل واحدة نصف طن".
ويضيف التقرير تفاصيل الوقائع، مشيرا إلى أن القاذفة وصلت الشريط الساحلي بدون أن يعترضها أحد، ثم أطلّت بظلها على نتانيا وقصفت المدينة بـ3 صواريخ أصابت مباني في شارعي "هرتسل" و"رازائيل"، مسببة دمارا كبيرا وقتيلين، إضافة لعدة إصابات. ثم توجهت شمالا وشرقا لتصل إلى قرية المجيدل المهجرة جنوب غرب الناصرة، وهناك لم تعثر على قاعدة "رمات ديفيد" فقصفت مركزا تجاريا، وفق الرواية الإسرائيلية.
وعندما بدأت بطارية الدفاع الجوي في قاعدة "رمات ديفيد" بإطلاق النار على القاذفة العراقية الثقيلة استدل عليها الطيار فتوجه نحوها، لكن القاذفة أُصيبت في أسفلها واضطرت للمناورة ثم أصيبت بصاروخ "جو - جو" من طائرة مقاتلة إسرائيلية، ثم واصلت مناورتها حتى حصل انفجار في خزان الوقود.
وأشار التقرير إلى أن "الطيار العراقي -الذي تأكد من حتمية تحطم طائرته وربما الوقوع في الأسر مع الطاقم- هوى بها نحو قاعدة عاموس العسكرية في العفولة، ما أدى إلى مصرع 14 جنديا على الفور، وقُتل جنديان آخران لاحقا بعد انفجار إحدى القنابل التي ألقتها القاذفة العراقية".
يخلص التقرير الإسرائيلي إلى أنه "لو كان لدى الطيارين العراقيين معلومات استخباراتية أفضل، لكان بإمكانهم إلحاق ضرر كبير بالمجهود الحربي الإسرائيلي برمته، ومن يدري، ربما كان سيطلق على الحرب مسمى آخر غير الأيام الستة".
أشارت المصادر الإسرائيلية أيضا، وكذلك الطيارون الإسرائيليون الذين أسروا، إلى أن التخطيط للعملية وتنفيذها واختيار مسار الطيران وعنصر المفاجأة، ومهارة الطيارين في التحكم في قاذفة نوعية في وقتها كان عملا عسكريا متفوقا، لكن نقص المعلومات حول الأهداف وعدم تحديث الخرائط والإحداثيات وعدم وجود الحماية الجوية الضرورية من المقاتلات بالنسبة للقاذفات الثقيلة، أدت كلها إلى عدم تحقيق أهداف كانت ستغيّر مجريات الحرب.
فلو تهيأت الظروف المناسبة لقيام هذه القاذفات (وربما غيرها) بمهامها على أكمل وجه، بحمولتها الضخمة من القنابل، وفي غياب الدفاع الجوي الإسرائيلي بعيد المدى أو متوسط المدى (معظم الطائرات وصلت فعلا بدون اكتشافها) لتم تدمير القواعد والمطارات الإسرائيلية الرئيسية، ولبقيت المقاتلات الإسرائيلية -التي كانت تنفذ هجمات في جميع الجبهات- عمليا بدون مهابط للعودة إليها في غياب العمق الحيوي لإسرائيل.
ذيول النكسة
وفي تقرير له في 19 يونيو/حزيران 1967 عن سير المعركة على الجبهة الأردنية، يؤكد الفريق عبد المنعم رياض (1919-1969)، وقد كان قائدا عاما للجبهة الأردنية ولمركز القيادة المتقدم في عمّان، أن "القوات الجوية الأردنية والعراقية قدمت كل ما في طاقتها المحدودة... المعركة كانت جوية أولا وأخيرا، حصل فيها العدو على السيطرة الجوية منذ الساعات الأولى وسهل ذلك لقواته البرية النجاح بلا عناء كبير. وقد قاتلت القوات الأردنية قتالا مريرا في ظروف غير مقبولة، وأدت واجبها بكل أمانة وشرف، ولكن الموقف الجوي المطلق لصالح العدو لم يمكنها من أداء مهمتها".
وكانت الضربة العراقية في عمق العدو الإسرائيلي فرصة ضائعة في خضم الضربة الجوية القاضية التي وُجهت للطيران المصري والسوري، وفقدان الغطاء الجوي، مضافا إلى السبب الرئيسي وهو أن "القيادة العربية الموحدة التي كانت قائمة بهذا العمل قد شُلت أيديها قبل المعركة بحوالي سنة، وعليه لم يكن هناك تنسيق بالمعنى المفهوم ولم يكن هناك تجهيز لمسرح العمليات بشكل مقبول.."، وفق ما يضيف الفريق عبد المنعم رياض في تقريره.
ورغم هذه الملاحم الفردية ومحاولات الصمود التي بدت كضوء خافت وسط ظلال كئيبة، كان مشهد حرب 1967 مع توقف الأعمال الحربية مساء العاشر من يونيو/حزيران، وصدور قرار مجلس الأمن 236 في 11 يونيو/حزيران؛ كارثة كبرى بالمنظور العسكري والسياسي، وبتداعياتها الاجتماعية النفسية، وقد خلخلت بشدة البنى السياسية والفكرية والثقافية السائدة بكل تجلياتها.
في المحصلة، استولت إسرائيل أثناء الحرب على مساحة واسعة من الأراضي العربية تقدر بـ69 ألفا و347 كيلومترا مربعا، أضيفت إلى 20 ألفا و700 كيلومتر مربعا التي استولت عليها عام 1948 وأقامت عليها دولتها، وبالتالي أضافت ما يعادل 3 أضعاف ونصف ضعف مساحتها التي كانت عليها في الرابع من يونيو/حزيران 1967.
وكانت الحركة الصهيونية قد حققت حلمها بإقامة دولة إسرائيل عام 1948 على أرض فلسطين التاريخية بالحرب والمؤامرة، ودعمتها بالتوسع حربا عام 1967. ولم يكن السلام معروضا إلا من موقع قوة وبالشروط الإسرائيلية، وهو ما يؤكده كلام ديفيد بن غوريون بعد النكبة عام 1948، حين قال "ليس هناك ضرورة للركض وراء السلام، فإن العرب سيطلبون ثمنا: حدود أو عودة لاجئين أو كليهما، دعنا ننتظر بضعة أعوام أخرى".
ولم يتحقق ذلك بعد العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956، وكان المطلوب والمخطط له هو إلحاق هزيمة قاسية بالعرب واحتلال أراض أخرى تتم المقايضة بها، وتفكيك الدور المصري أولا ثم بقية الدول تباعا، ثم حصر القضية الفلسطينية في النطاق الفلسطيني وفق المقاربة الإسرائيلية.
ورغم معارك حرب الاستنزاف (1967-1970)، وحرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 بالأداء العسكري المتفوق والنتائج العسكرية الباهرة -في الأيام الأولى على الأقل- فقد طغت تبعات حرب الأيام الستة (التسمية التي تفضلها إسرائيل) والنكسة بالمفهوم العربي وبقيت بشكل ما راسخة ومهيمنة على كل ما سبقها وتلاها من فصول الصراع، وطبعت ضمنيا على كل التحولات السياسية اللاحقة، المتعلقة بمقاربات السلام العربية مع إسرائيل.
المصدر : الجزيرة