مخيم جباليا 13-5-2023 وفا- سامي أبو سالم
في منزله الكائن في "حارة اليافاوية"، بمخيم جباليا شمال غزة، يقلّب خليل محمد خليل أبو سيف، أوراق ملكية والده لعقارات في مدينة يافا قبل أن يُجبروا على الهروب منها في نكبة 1948.
وثائق اصفرّ لونها وتآكلت أطرافها، بعضها ملكية أراضي وإيصالات خدمات كهرباء وماء لصالح البلدية وإيجار عقارات، وشراء منزل عمدة يافا أحمد أبو لبن، ووثائق ملكية لأمه وأظهر لمراسل "وفا" وثيقة تثبت ما يقول.
في الذكرى الخامسة والسبعين للنكبة الفلسطينية ينبش خليل أبو سيف الملقب بـ"الملك" في ذاكرته ويقول إن أباه لم يكن يعمل لأنه كان غنيا يعتاش فقط من وراء إيجارات البيوت والأراضي التي يملكها قبل أن يتحول إلى لاجئ ويعيش في مخيم لاجئين.
وفا
وأضاف: من أبرز المستأجرين كان الفنان السوري عازف البزق محمد عبد الكريم، وموسى الدجني مسؤول في إذاعة الشرق الأوسط، موضحا أن أمه أيضا "تمام المرنخ" كانت تملك بيتا "كبيرا" وتؤجره.
ويذكر "الملك"، الذي ولد سنة 1939، شوارع يافا الجميلة وصروحها الحضارية، كانت شوارع معبدة والبلدية ترش الشجر بالماء. مسارح ودور سينما ومدارس وسيارات.
"كنا نقطن في شارع رقم "6"، ونلعب في شوارع نظيفة، ومن أهم الشوارع التي أذكرها شارع جمال باشا وشارع إسكندر عوض".
ويقول أبو سيف الذي درس في يافا حتى الصف الثالث الابتدائي إن معلمته كانت تجمع الطلاب وتصطحبهم في رحلة مدرسية إلى السينما لحضور أفلام.
"لا أذكر اسم المعلمة لكن يذكر من المعلمين ابراهيم طوباسي ومحمود الهباب وأذكر من دور السينما الحمراء وفاروق وأبولو ونبيل".
من جهته، يتحدث المؤرخ الدكتور محمد طلال أبو سيف، المختص بتاريخ يافا، عن واقعها بالقول، إن المدينة كانت تزخر بالحياة الحضرية لذا كانت تعج بالأنشطة الثقافية والحفلات الموسيقية ودور السينما والمسرح والاتحادات الثقافية والمطابع والصحافة".
وأضاف المؤرخ أبو سيف، الذي يقطن مدينة غزة، أن عدد المدارس في مدينة يافا بلغ 47 مدرسة، 11 منها خاصة بالإناث، و19 مختلطة وست مدارس أجنبية.
قبل الاحتلال كانت مدينة يافا مثالا للتعايش والتسامح الديني والعرقي، وتعتبر العاصمة العربية القومية لفلسطين فبالرغم من أن القدس هي عاصمة القطر الفلسطيني وبها مركز الحكومة فإن يافا كانت عاصمة حقيقية لفلسطين.
وأردف قائلا: الحركة الوطنية كانت تتمركز في يافا "كانت هي نقطة انطلاق لثورتي 1922 و1936، وكانت مسرحا لمظاهرات ضد الاحتلال البريطاني والصهاينة، واستشهد رئيس بلدية القدس موسى كاظم الحسيني نتيجة اصابته برصاص الاحتلال البريطاني خلال مشاركته في مظاهرات بمدينة يافا.
وأشار الملك خليل أبو سيف إلى أن مدينته كانت تُعرف بأرض الغرباء لأنها كانت ملاذا لمن لا عمل له. "كان مواطنون من مختلف أنحاء البلاد يأتون ليافا بحثا عن عمل ولا يعود أحدهم خالي الوفاض".
ويرجع الانتعاش الاقتصادي فيها بسبب الحركة السياحة والمؤسسات الصناعية والتجارية وصناعة صيد السمك وكونها مركز استيراد وتصدير عبر مينائها الشهير. "حركة التجارة في ميناء يافا سبقت الحركة في ميناء بيروت وكانت تمر في فترة نمو سريع منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر"، قال المؤرخ أبو سيف.
رحل الملك مع أقاربه في شاحنة استأجرها والده أوصلتهم إلى مخيم جباليا للاجئين، ليعيش في خيمة، في البداية. وفي بداية اللجوء أنقذته أموال والدته إلى أن بدأ يضيق بهم، لا سيما بعد "العدوان الثلاثي" على مصر وغزة (1956) ومن بعدها احتلال غزة (1967).
ضاق الحال ما أجبره على بيع 3 منازل ومحل تجاري وقطعة ارض بغزة، ليصفي العيش في منزل صغير في مخيم جباليا في "حارة اليافاوية".
ويقطن في المخيم زهاء 120 ألف لاجئ وهو أكبر مخيمات اللجوء الثمانية في قطاع غزة، وفقا للأونروا.
وبين أن البيت الذي كان يعيش فيه عبارة عن منزل مكون من 3 غرف ومنافع، مسقوف بالباطون المسلح، محاط بحديقة، وبئر ماء، وحوش بمساحة دونم (1000 متر مربع)، بينما يعيش الآن لاجئا في بيت 90 متر يؤوي 10 أنفار.
في مطلع السبعينيات سمحت قوات الاحتلال لأعداد من أهالي غزة بالعمل في "إسرائيل"، خرج الملك للعمل هناك وتوجه إلى يافا يتفقد البيوت التي يملكها والده.
"رأيت بيتنا كما هو تقطنه عائلة صهيونية، أما بقية عقارات أبي فكان الاحتلال يهدمها تدريجيا، غيروا معالم المدينة".
ولم يتمالك "الملك" مشاعره فاحمرت عيناه الخضراوان، وبكى وهو يستذكر حياة رغيدة كان يعيشها إلى أن ألقى الاحتلال به في بيت صغير في مخيم لاجئين.
"أين كنا وأين أصبحنا؟ ليست هذه الحياة التي نشأنا عليها، كنت أعيش كالملك حياة فخمة وأبي ثري ثم تلقي بنا الأيام في مخيم للاجئين نتلقى إعانات من وكالات الغوث... كل هذا بسبب الاحتلال الاسرائيلي" قال الملك وقد تسللت دمعة على وجنته.
ويعيش ما يزيد على 1,4 مليون لاجئ فلسطيني (ثلث اللاجئين) في 58 مخيما، معترف به في كل من: الأردن، ولبنان، وسوريا، وقطاع غزة، والضفة الغربية، بما فيها القدس، وفقا لوكالة إغاثة اللاجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتحدة "الأونروا".
وقال المؤرخ أبو سيف، الذي تعود أصوله لمدينة يافا، إن جزءا من أهالي يافا توجهوا لمخيمات غزة، وآخرين للضفة الغربية، وغيرهم تشتت في الدول العربية، ومنهم توجه لدول مختلفة في أنحاء العالم.
وقدّر عدد سكان يافا في إحصائية عام 1947 حوالي 72,000، وتعرضت أكثر من مرة للعدوان الصهيوني ما أدى لاستشهاد 1300 مواطن فهرب سكانها خشية بطش العصابات الصهيونية ولم يبق منهم سوى 3,651 عربيا، وفقا للموسوعة الفلسطينية الإلكترونية.
وخلال النكبة سيطر الاحتلال الإسرائيلي على 774 قرية ومدينة، ودمروا 531 قرية ومدينة فلسطينية، فيما اقترفت قوات الاحتلال أكثر من 70 مجزرة بحق الفلسطينيين واستشهد ما يزيد على 15 ألف فلسطيني. وفقا للمركز الوطني للمعلومات الفلسطيني.
ويتناول المركز الوطني للمعلومات دور يافا في مقارعة الاحتلال البريطاني والحركة الصهيونية قبل وإبان النكبة، فيشير إلى اشتباك بين مجموعة من المناضلين والصهاينة، بين تل الريش ومستعمرة حولون، قتل فيها عدد من الصهاينة بمن فيهم قائد المجموعة، ثم قام الصهاينة في 4/1/1948 بنسف دار الحكومة؛ فقتل عشرات العرب.
وكان الشيخ حسن سلامة هو المسؤول العسكري عن منطقة يافا. وقد دارت معارك بين المجاهدين والصهاينة استمرت شهرين ونصف الشهر، بدأت في 4/12/1947. وقد اعترف مناحيم بيغن -زعيم "الأرغون" في تلك الفترة- بشدة معاناة تل أبيب من يافا وحي المنشية.
"أقر بيغن أن القناصة العرب كانوا يرسلون الموت إلى كل مكان، حتى أن رصاصهم وصل إلى النيابة التي تعمل فيها بلدية تل أبيب". وفقا لدراسة "المعارك والثورات في فلسطين" على موقع البنك الوطني للمعلومات.
وضمت يافا عدة أحياء، أهمها: العجمي، والمنشية، والنزهة، وارشيد، والجبلية، وهريش، والبلدة القديمة.
وشُرد زهاء 800 ألف فلسطيني قسرا من قراهم ومدنهم بقوة السلاح والتهديد من قبل العصابات الصهيونية إلى الضفة الغربية وقطاع غزة والدول العربية المجاورة والشتات، من أصل مليون و400 ألف فلسطيني كانوا يقيمون في فلسطين التاريخية عام 1948، وفقا للمركز الوطني.
ويبلغ عدد الفلسطينيين، حتى منتصف 2022، حوالي 14.3 مليون فلسطيني في العالم، منهم نحو 5.35 مليون في دولة فلسطين فيما يرزح زهاء 7 ملايين في الشتات، وفقا لإحصاءات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.
وأشار "الملك" أبو سيف، الذي أكمل حياته مجرد عامل في يافا، وباقي المدن حولها، إلى أنه لن يفرط بالوثائق بين يديه ولو بملايين الدولارات.
"التفريط بالوثائق أو بيعها خيانة وسأحتفظ بها علّ وعسى أن أحتاجها عند العودة لإثبات حقي، ولا مجال لاستخدامها لأي مصلحة أخرى".
وحول تسميته بالملك قال خليل أبو سيف أطلق أصدقاؤه عليه هذا اللقب منذ الصغر، لأنه كان يرتدي أفضل الملابس ودائما "full pocket"- قالها بالإنجليزية [جيبه مليئة بالمال].
تركَنا الملك خليل، وجيبه مليئة بأدوية أمراض مزمنة، وذهب لأداء صلاة العصر في "مسجد يافا" الذي أنشأه أهل الحارة ووسموه باسم مدينتهم التي يحلمون بالعودة إليها.