ما رأيناه في جامعتين محترمتين من جامعاتنا، الأسبوع المنصرف، هو بالضبط ما فعلناه بأنفسنا على امتداد عقدين من الزمان على الأقل، أرجو هنا ان لا نضع اللوم كله على هؤلاء «الشباب» الذين حوّلوا الجامعة الى ساحة صراع جهوي، ولا على إدارة الجامعة التي وقفت مكتوفة الايدي أمام «الفضيحة»، ولا على وزارة التعليم العالي التي وقفت تتفرج، ولا تزال تدور في حلقة مفرغة، ولا تعرف ماذا تريد.
نحن جميعا، ادارات الدولة ونخب المجتمع، نتحمل مسؤولية هذا العبث الذي جرى في نواميسنا الوطنية والتعليمية على حد سواء، وما شاهدناه هو صورة بلدنا الذي افرز أسوا ما فيه، بعد أن أهملناه وتركنا لأشواكه وأحساكه ان تنمو وتتكاثر، بل وتعهدناها بالرعاية، وكأنها ستحمينا من خطر امتداد الفسائل التي يعتقد البعض انها تهددنا.
لم يفاجئنا ما حدث بالجامعتين، لأننا عشنا بعض فصوله في جامعات اخرى تعرضت لسلسلة من الصدامات وأعمال العنف، وفي أخرى ارتفعت اسوارها واختنق من بداخلها بفعل المقررات الخاطئة، لكن لا شك ان صدمتنا بكل ما جرى يفترض ان تحرك فينا سؤالاً مهما، وهو: لماذا لا نزال صامتين (عاجزين ربما) امام مثل هذه الكوارث التي حوّلت حرم الجامعات الى ميادين عنف واشتباك بالأيدي، واحيانا بالهراوات، هل المشكلة لا تستحق منا ادنى اهتمام، ولا تستدعي ان ندق ناقوس الخطر، هل هذا الانقسام المخجل في مجتمعنا مجرد «غيمة» عابرة، ام انه حالة تحتاج الى مراجعات وحلول عميقة، قبل ان تتوسع وتتحول الى ظاهرة مرعبة؟
أرجو ان لا يسألني أحد لماذا حدث ذلك، فقد سبق وخرجت عشرات الدراسات والنقاشات بما يلزم من تشخيص وتوصيات، وكدنا «نتفق» على ان التعليم العالي في بلادنا قد تراجع، وان إصلاحه، لا تعشيبه فقط، أصبح فريضة الوقت، كما ان واقع جامعاتنا ابتداء من آلية القبول، مروراً بالبرامج الدراسية، وانتهاءً بالإدارات والمخرجات، وصلت الى طريق مسدود، في كل مناسبة نكرر تحفظاتنا على طريقة اختيار مجالس أمناء الجامعات، وتعيين الادارات والأساتذة، والحريات الاكاديمية التي انحدرت، والتدخلات الخارجية التي أفرغت الجامعة من دورها ومهامها، والفقر المعرفي والسياسي الذي «فرّغ» الطلبة لتنظيم المشاجرات فقط.
لم تكن السياسة بعيدة عن المشهد، فقد كان لدى جامعاتنا في وقت مضى مساحات للعمل الطلابي من خلال الاتحادات والأندية والنشاطات المختلفة، كان الصراع بين الطلبة آنذاك يدور على تخوم الفكر والسياسة، كان إطار «الوطن» يتسع للجميع قبل ان تداهمنا الولاءات الفرعية، والعنتريات القبلية، كان يمكن للجامعة ان تستوعب حماسة الطلبة وطاقاتهم من خلال العمل الطلابي المنتظم، لا من خلال المقررات التي تسقط بالباراشوت من الإدارات المعزولة اصلاً عن الطلبة.
الآن تغيرت الصورة تماماً، فالجامعة أصبحت مدرسة، وطلابها تحولوا الى ناطقين باسم مناطقهم وعشائرهم، أليس هذا ما تعلموه منا حين نمارس السياسة، وحين نحدثهم عن موازين العدالة، وحين يكتشفون اننا خدعناهم واورثناهم خيباتنا على كل صعيد.
الآن، ثمة من يدعو الى معاقبة هؤلاء الطلبة الذين خرجوا على القانون ( تم فصل 42 طالبا أمس بإحدى الجامعات لتورطهم بالمشاجرات)، تصور أننا أخطأنا بحقهم ثم نعاقبهم ايضا، وثمة من يعتقد ان الحلول الأمنية أصبحت هي «الكيّ» الأخير، لم يلتفت هؤلاء الى أن الطلبة وفدوا من بيئات اجتماعية ومدارس، ومن مجتمع، ايضاً، تعلموا فيه ما رأيناه في شوارع الجامعة وكلياتها من مشاهد صدمتنا جميعاً، لم يلتفتوا أيضا الى السياسة التي تعطلت، والعدالة التي تراجعت، والاصابات التي طرأت على قيمنا، والمقررات الخاطئة التي واجهنا بها مشكلاتنا وازماتنا، والإهمال الذي تعاملنا به مع شبابنا، كلها انتجت مثل هذا الجيل الذي أصبحنا اليوم «نتبرأ» من تصرفاته، ونحتشد لإدانته والمطالبة بمحاسبته.
لماذا لا نسأل أنفسنا عن الرسالة التي نريد ايصالها حين تضيق الإدارات الجامعية بطالب من طلابها فتفصله لمجرد ان صوته ارتفع مطالباً بحقوق زملائه؟ او عن الهدف الذي نريده حين نتعمد تفصيل أندية واتحادات طلاب بمواصفات «مضمونة» او تعطلها لسنوات، او حين نغذي الانتماءات المناطقية، او نقيم نشاطات «وطنية» تقنع الطلاب انهم ليسوا في جامعة وإنما في حارة؟
ما فعلناه بأنفسنا، وليس، فقط، ما فعلته الحكومات بنا، ها نحن نحصد «ثماره» في جامعاتنا وفي مؤسساتنا وفي شوارعنا، سواءً على شكل عنف طلابي، او خيبات أمل ومواقف وصور مخجلة، او جرائم ومخدرات وانتحار وفساد وانحراف، ومن يلوم من؟ ما دام ان الجميع استقالوا من مسؤولياتهم، وآثروا الجلوس على مقاعد «المتفجرين» وما دام أن معاناة بلدنا لا تزال خبراً متداولاً يتكرر كل يوم دون أن يثير انتباه أحد.